9 مصاحف

جواهر القران لأبي حامد الغزالي

 كتاب جواهر القرآن أبو حامد الغزالي

 

الثلاثاء، 27 يوليو 2021

معني شاء ومشيئة وشيئا من لسان العرب

 شيأ الـمَشِيئةُ: الإِرادة.   شِئْتُ الشيءَ أَشاؤُه شَيئاً ومَشِيئةً ومَشاءة ومَشايةً(1) /(1 قوله «ومشاية» كذا في النسخ والمحكم   وقال شارح القاموس مشائية كعلانية.): أَرَدْتُه، والاسم الشِّيئةُ، عن اللحياني.

وفي التهذيب: الـمَشِيئةُ: مصدر شاءَ يَشاءُ مَشِيئةً. 

 وقالوا: كلُّ شيءٍ بِشِيئةِ اللّه، بكسر الشين، مثل شِيعةٍ أَي بمَشِيئتِه.

 
وفي الحديث: أَن يَهُوديّاً أَتى النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم فقال:
إِنَّكم تَنْذِرُون وتُشْرِكُون؛ تقولون: ما شاءَ اللّهُ وشِئتُ. 

 فأَمَرَهم النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم أَن يقولوا: ما شاءَ اللّه ثم شِئْتُ.
الـمَشِيئةُ، مهموزة: الإِرادةُ. 

 وقد شِئتُ الشيءَ أَشاؤُه، وإِنما فَرَق بين قوله ما شاءَ <ص:104> اللّهُ وشِئتُ، 

 وما شاءَ اللّهُ ثم شِئتُ، لأَن الواو تفيد الجمع دون الترتيب، وثم تَجْمَعُ وتُرَتِّبُ، فمع الواو يكون قد جمع بَيْنَ اللّهِ وبينه في الـمَشِيئةِ، ومَع ثُمَّ يكون قد قَدَّمَ مشِيئَة اللّهِ على مَشِيئتِه.

 
والشَّيءُ: معلوم. 

 قال سيبويه حين أَراد أَن يجعل الـمُذَكَّر أَصلاً للمؤَنث: أَلا ترى أَن الشيءَ مذكَّر، وهو يَقَعُ على كل ما أُخْبِرُ عنه.

 
فأَما ما حكاه سيبويه أَيضاً من قول العَرَب: ما أَغْفَلَه عنك شَيْئاً،
فإِنه فسره بقوله أَي دَعِ الشَّكَّ عنْكَ، وهذا غير مُقْنِعٍ. 

 قال ابن جني: ولا يجوز أَن يكون شَيئاً ههنا منصوباً على المصدر حتى كأَنه قال: ما أَغْفَلَه عنك غُفُولاً، ونحو ذلك، لأَن فعل التعجب قد استغنى بما بما حصل فيه من معنى المبالغة عن أَن يؤَكَّد بالمَصْدر. 

 قال: وأَما قولهم هو أَحْسَنُ منك شَيْئاً، فإِنَّ شيئاً هنا منصوب على تقدير بشَيءٍ، فلما حَذَف حرفَ الجرِّ أَوْصَلَ إِليه ما قبله، وذلك أَن معنى هو أَفْعَلُ منه في الـمُبالغَةِ كمعنى ما أَفْعَله، فكما لم يَجُزْ ما أَقْوَمَه قِياماً، كذلك لم يَجُز هو أَقْوَمُ منه قِياماً. 

 والجمع: أَشياءُ، غير مصروف، وأَشْياواتٌ وأَشاواتٌ وأَشايا وأَشاوَى، من باب جَبَيْتُ الخَراجَ جِباوةً.

 
وقال اللحياني: وبعضهم يقول في جمعها: أَشْيايا وأَشاوِهَ؛ وحكَى أَن شيخاً أَنشده في مَجْلِس الكسائي عن بعض الأَعراب:

وَذلِك ما أُوصِيكِ، يا أُّمَّ مَعْمَرٍ، * وبَعْضُ الوَصايا، في أَشاوِهَ، تَنْفَعُ
قال: وزعم الشيخ أَن الأَعرابي قال: أُريد أَشايا، وهذا من أَشَذّ
الجَمْع، لأَنه لا هاءَ في أَشْياءَ فتكون في أَشاوِهَ. وأَشْياءُ: لَفْعاءُ
عند الخليل وسيبويه، وعند أَبي الحسن الأَخفش أَفْعِلاءُ. وفي التنزيل العزيز: يا أَيها الذين آمَنُوا لا تَسأَلوا عن أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لكم تَسُؤْكم.

قال أَبو منصور: لم يختلف النحويون في أَن أَشْياء جمع شيء، وأَنها غير مُجراة.
قال: واختلفوا في العِلة فكَرِهْتُ أَن أَحكِيَ مَقالة كل واحد

منهم، واقتصرتُ على ما قاله أَبو إِسحق الزجاج في كتابه لأَنه جَمَعَ أَقاوِيلَهم على اخْتِلافها، واحتج لأَصْوَبِها عنده، وعزاه إِلى الخليل، فقال قوله: لا تَسْأَلُوا عن أَشياءَ، أَشْياءُ في موضع الخفض، إِلاَّ أَنها فُتحت لأَنها لا تنصرف.
قال وقال الكسائي: أَشْبَهَ آخِرُها آخِرَ حَمْراءَ، وكَثُر استعمالها،
فلم تُصرَفْ. قال الزجاج: وقد أَجمع البصريون وأَكثر الكوفيين على أَنَّ قول الكسائي خطأٌ في هذا، وأَلزموه أَن لا يَصْرِف أَبناء وأَسماء. وقال الفرّاءُ والأَخفش: أَصل أَشياء أَفْعِلاء كما تقول هَيْنٌ وأَهْوِناء، إِلا أَنه كان الأَصل أَشْيِئاء، على وزن أَشْيِعاع، فاجتمعت همزتان بينهما أَلف فحُذِفت الهمزة الأُولى. قال أَبو إِسحق: وهذا القول أَيضاً غلط لأَن شَيْئاً فَعْلٌ، وفَعْلٌ لا يجمع أَفْعِلاء، فأَما هَيْنٌ فأَصله هَيِّنٌ، فجُمِعَ على أَفْعِلاء كما يجمع فَعِيلٌ على أَفْعِلاءَ، مثل نَصِيب وأَنْصِباء. قال وقال الخليل: أَشياء اسم للجمع كان أَصلُه فَعْلاءَ شَيْئاءَ، فاسْتُثْقل الهمزتان، فقلبوا الهمزة الاولى إِلى أَول الكلمة، فجُعِلَت لَفْعاءَ، كما قَلَبُوا أَنْوُقاً فقالوا أَيْنُقاً. وكما قلبوا قُوُوساً قِسِيّاً.
قال: وتصديق قول الخليل جمعُهم أَشْياءَ أَشاوَى وأَشايا، قال: وقول الخليل هو مذهب سيبويه والمازني وجميع البصريين، إلاَّ الزَّيَّادِي منهم، فإِنه كان يَمِيل إِلى قول الأَخفش. وذُكِر أَن المازني ناظَر الأَخفش في هذا، فقطَع المازِنيُّ الأَخفشَ، وذلك أَنه سأَله كيف تُصغِّر أَشياء، فقال له أَقول: أُشَيَّاء؛ فاعلم، ولو كانت أَفعلاء لردَّت في التصغير إِلى واحدها فقيل: شُيَيْئات. وأَجمع البصريون أَنَّ تصغير أَصْدِقاء، إِن كانت للمؤَنث:
<ص:105>
صُدَيْقات، وإِن كان للمذكرِ: صُدَيْقُون. قال أَبو منصور: وأَما
الليث، فإِنه حكى عن الخليل غير ما حكى عنه الثقات، وخَلَّط فيما حكى وطوَّلَ تطويلاً دل عل حَيْرته، قال: فلذلك تركته، فلم أَحكه بعينه. وتصغير الشيءِ: شُيَيْءٌ وشِيَيْءٌ بكسر الشين وضمها. قال: ولا تقل شُوَيْءٌ.

قال الجوهري قال الخليل: إِنما ترك صرف أَشياءَ لأَن أَصله فَعْلاء جُمِعَ على غير واحده، كما أَنَّ الشُّعراءَ جُمعَ على غير واحده، لأَن الفاعل لا يجمع على فُعَلاء، ثم استثقلوا الهمزتين في آخره، فقلبوا الاولى أَوَّل الكلمة، فقالوا: أَشياء، كما قالوا: عُقابٌ بعَنْقاة، وأَيْنُقٌ وقِسِيٌّ، فصار تقديره لَفْعاء؛ يدل على صحة ذلك أَنه لا يصرف، وأَنه يصغر على أُشَيَّاء، وأَنه يجمع على أَشاوَى، وأَصله أَشائِيُّ قلبت الهمزة ياءً، فاجتمعت ثلاث ياءات، فحُذفت الوُسْطى وقُلِبت الأَخيرة أَلِفاً، وأُبْدِلت من الأُولى واواً، كما قالوا: أَتَيْتُه أَتْوَةً. وحكى الأَصمعي: أَنه سمع رجلاً من أَفصح العرب يقول لخلف الأَحمر: إِنَّ عندك لأَشاوى، مثل الصَّحارى، ويجمع أَيضاً على أَشايا وأَشْياوات.
وقال الأَخفش: هو أَفْعلاء، فلهذا لم يُصرف، لأَن أَصله أَشْيِئاءُ، حذفت الهمزة التي بين الياءِ والأَلِف للتخفيف. قال له المازني: كيف تُصغِّر العربُ أَشياءَ؟ فقال:

أُشَيَّاء. فقال له: تركت قولك لأَنَّ كل جمع كُسِّرَ على غير واحده، وهو من أَبنية الجمع، فإِنه يُردُّ في التصغير إِلى واحده، كما قالوا: شُوَيْعِرون في تصغير الشُّعَراءِ، وفيما لا يَعْقِلُ بالأَلِف والتاءِ، فكان يجب أَن يقولوا شُيَيْئَات. قال: وهذا القول لا يلزم الخليل، لأَنَّ فَعْلاء ليس من ابنية الجمع. وقال الكسائي: أَشياء أَفعالٌ مثل فَرْخٍ وأَفْراخٍ، وإِنما تركوا صرفها لكثرة استعمالهم لها لأَنها شُبِّهت بفَعْلاء. وقال الفرّاء: أَصل شيءٍ شَيِّئٌ، على مثال شَيِّعٍ، فجمع على أَفْعِلاء مثل هَيِّنٍ وأَهْيِناء ولَيِّنٍ وأَلْيِناء، ثم خفف، فقيل شيءٌ، كما قالوا هَيْنٌ ولَيْنٌ، وقالوا أَشياء فَحَذَفُوا الهمزة الأُولى وهذا القول يدخل عليه أَن لا يُجْمَع على أَشاوَى، هذا نص كلام الجوهري.
قال ابن بري عند حكاية الجوهري عن الخليل: ان أَشْياءَ فَعْلاء جُمِع على غير واحده، كما أَنَّ الشعراء جُمِعَ على غيره واحده؛ قال ابن بري:
حِكايَتُه عن الخليل أَنه قال: إِنها جَمْع على غير واحده كشاعِر وشُعراءٍ، وَهَمٌ منه، بل واحدها شيء. قال: وليست أَشياء عنده بجمع مكسَّر، وإِنما هي اسم واحد بمنزلة الطَّرْفاءِ والقَصْباءِ والحَلْفاءِ، ولكنه يجعلها بدلاً من جَمع مكسر بدلالة إِضافة العدد القليل إِليها كقولهم: ثلاثة أَشْياء، فأَما جمعها على غير واحدها، فذلك مذهب الأَخفش لأَنه يَرى أَنَّ أَشْياء وزنها أَفْعِلاء، وأَصلها أَشْيِئاء، فحُذِفت الهمزة تخفيفاً. قال: وكان أَبو علي يجيز قول أَبي الحسن على أَن يكون واحدها شيئاً ويكون أَفْعِلاء جمعاً لفَعْل في هذا كما جُمِعَ فَعْلٌ على فُعَلاء في نحو سَمْحٍ وسُمَحاء. قال: وهو وهَم من أَبي علي لأَن شَيْئاً اسم وسَمْحاً صفة بمعنى سَمِيحٍ لأَن اسم الفاعل من سَمُحَ قياسه سَمِيحٌ، وسَمِيح يجمع على سُمَحاء كظَرِيف وظُرَفاء، ومثله خَصْم وخُصَماء لأَنه في معنى خَصِيم. والخليل وسيبويه يقولان: أَصلها شَيْئاءُ، فقدمت الهمزة التي هي لام الكلمة إِلى أَوَّلها فصارت أَشْياء، فوزنها لَفْعاء.

قال: ويدل على صحة قولهما أَن العرب قالت في تصغيرها: أُشَيَّاء. قال:
ولو كانت جمعاً مكسراً، كما ذهب إِليه الأخفش: لقيل في تصغيرها: شُيَيْئات، كما يُفعل ذلك في الجُموع الـمُكَسَّرة كجِمالٍ وكِعابٍ وكِلابٍ،تقول في تصغيرها: جُمَيْلاتٌ وكُعَيْباتٌ وكُلَيْباتٌ، فتردها إِلى الواحد، ثم تجمعها بالالف والتاء. وقال ابن <ص:106>
بري عند قول الجوهري: إِن أَشْياء يجمع على أَشاوِي، وأَصله أَشائِيُّ فقلبت الهمزة أَلفاً، وأُبدلت من الاولى واواً، قال: قوله أَصله أَشائِيُّ سهو، وانما أَصله أَشايِيُّ بثلاث ياءات.
قال: ولا يصح همز الياء الاولى لكونها أَصلاً غير زائدة، كما تقول في جَمْع أَبْياتٍ أَبايِيت، فلا تهمز الياء التي بعد الأَلف، ثم خففت الياء المشدّدة، كما قالوا في صَحارِيّ صَحارٍ، فصار أَشايٍ، ثم أُبْدِلَ من الكسرة فتحةٌ ومن الياءِ أَلف، فصار أَشايا، كما قالوا في صَحارٍ صَحارَى، ثم أَبدلوا من الياء واواً، كما أَبدلوها في جَبَيْت الخَراج جِبايةً وجِباوةً.وعند سيبويه: أَنَّ أَشاوَى جمع لإِشاوةٍ، وإِن لم يُنْطَقْ بها.

وقال ابن بري عند قول الجوهري إِن المازني قال للأَخفش: كيف تصغِّر العرب أَشياء، فقال أُشَيَّاء، فقال له: تركت قولك لأَن كل جمع كسر على غير واحده، وهو من أَبنية الجمع، فإِنه يُردُّ بالتصغير إِلى واحده. قال ابن بري: هذه الحكاية مغيرة لأَنَّ المازني إِنما أَنكر على الأَخفش تصغير أَشياء، وهي جمع مكسر للكثرة، من غير أَن يُردَّ إِلى الواحد، ولم يقل له إِن كل جمع كسر على غير واحده، لأَنه ليس السببُ الـمُوجِبُ لردِّ الجمع إِلى واحده عند التصغير هو كونه كسر على غير واحده، وإِنما ذلك لكونه جَمْعَ كَثرة لا قلة. قال ابن بري عند قول الجوهري عن الفرّاء: إِن أَصل شيءٍ شَيِّئٌ، فجمع على أَفْعِلاء، مثل هَيِّنٍ وأَهْيِناء، قال: هذا سهو، وصوابه أَهْوناء، لأَنه من الهَوْنِ، وهو اللِّين.
الليث: الشَّيء: الماء، وأَنشد:
تَرَى رَكْبَه بالشيءِ في وَسْطِ قَفْرةٍ
قال أَبو منصور: لا أَعرف الشيء بمعنى الماء ولا أَدري ما هو ولا أَعرف البيت. وقال أَبو حاتم: قال الأَصمعي: إِذا قال لك الرجل: ما أَردت؟ قلتَ:
لا شيئاً؛ وإِذا قال لك: لِمَ فَعَلْتَ ذلك؟ قلت: للاشَيْءٍ؛ وإِن قال:
ما أَمْرُكَ؟ قلت: لا شَيْءٌ، تُنَوِّن فيهن كُلِّهن.

والـمُشَيَّأُ: الـمُخْتَلِفُ الخَلْقِ الـمُخَبَّله(1)
(1 قوله «المخبله» هو هكذا في نسخ المحكم بالباء الموحدة.) القَبِيحُ. قال:
فَطَيِّئٌ ما طَيِّئٌ ما طَيِّئُ؟ * شَيَّأَهُم، إِذْ خَلَقَ، الـمُشَيِّئُ
وقد شَيَّأَ اللّه خَلْقَه أَي قَبَّحه. وقالت امرأَة من العرب:
إِنّي لأَهْوَى الأَطْوَلِينَ الغُلْبا، * وأُبْغِضُ الـمُشَيَّئِينَ الزُّغْبا
وقال أَبو سعيد: الـمُشَيَّأُ مِثل الـمُؤَبَّن. وقال الجَعْدِيُّ:
زَفِير الـمُتِمِّ بالـمُشَيَّإِ طَرَّقَتْ * بِكاهِلِه، فَما يَرِيمُ الـمَلاقِيَا
وشَيَّأْتُ الرَّجلَ على الأَمْرِ: حَمَلْتُه عليه. ويا شَيْء: كلمة يُتَعَجَّب بها. قال:
يا شَيْءَ ما لي! مَنْ يُعَمَّرْ يُفْنِهِ * مَرُّ الزَّمانِ عَلَيْهِ، والتَّقْلِيبُ
قال: ومعناها التأَسُّف على الشيء يُفُوت. وقال اللحياني: معناه يا عَجَبي، وما: في موضع رفع. الأَحمر: يا فَيْءَ ما لِي، ويا شَيْءَ ما لِي، ويا هَيْءَ ما لِي معناه كُلِّه الأَسَفُ والتَّلَهُّفُ والحزن. الكسائي: يا فَيَّ ما لي ويا هَيَّ ما لي، لا يُهْمَزان، ويا شيء ما لي، يهمز ولا يهمز؛ وما، في كلها في موضع رفع تأْويِلُه يا عَجَبا ما لي، ومعناه التَّلَهُّف والأَسَى. قال الكسائي: مِن العرب من
<ص:107>
يتعجب بشيَّ وهَيَّ وَفيَّ، ومنهم من يزيد ما، فيقول: يا شيَّ ما، ويا هيّ ما، ويا فيَّ ما أَي ما أَحْسَنَ هذا. وأَشاءَه لغة في أَجاءه أَي أَلْجَأَه. وتميم تقول: شَرٌّ ما يُشِيئُكَ إِلى مُخَّةِ عُرْقُوبٍ أَي يُجِيئُك. قال زهير ابن ذؤيب العدوي:
فَيَالَ تَمِيمٍ! صابِرُوا، قد أُشِئْتُمُ * إِليه، وكُونُوا كالـمُحَرِّبة البُسْل

الجمعة، 23 أبريل 2021

خطبة "لا تقنطوا من رحمة الله" لفضيلة الشيخ محمد حسان

خطبة "لا تقنطوا من رحمة الله" لفضيلة الشيخ محمد حسان


» لا تقنطوا من رحمة الله «

هذا هو عنوان خطبتنا في هذا اليوم المبارك أسأل الله جل وعلا أن يذلل لى ولكم الصعاب، وأن ييسر لى ولكم الأسباب وأن يفتح لي ولكم الأبواب إنه الحليم الكريم الوهاب.
ونظراً لطول هذا الموضوع فسوف ينتظم حديثى مع أحبابي في العناصر التالية:

أولاً: الدنيا دار ابتلاء وبوتقة اختبار.
ثانياً: خطر الذنوب والمعاصى.
ثالثاً:نداء علوى رقيق.
وأخيراً: فهل من توبة.

فأعيرونى القلوب والأسماع. فإن هذا الموضوع من الأهمية بمكان.
أولا: الدنيا دار ابتلاء وبوتقة اختبار
أيها الحبيب الكريم. من يوم أن وجدت فى هذه الدنيا وأنت مبتلى، وأنت مختبر، إن مَنَّ الله عليك بالمال فأنت في بوتقة اختبار، إن مَنَّ الله عليك بالعافية والصحة فأنت مبتلى .. إن ابتلاك الله بالشك والضيق فأنت مبتلى.
وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ([1]) هذه الدنيا دار إبتلاء وبوتقة اختبار ليست دار قرار وإنما هي دار بلاء ودار زوال.
اسمع إلى الكبير المتعال جل جلاله وهو يقول:
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ([2])
هذا حكم الله جل وعلا على هذه الدار.

فانتبه أيها الحبيب.. ولقد تعمدت أن أبدأ الموضوع بهذا العنصر لينتبه كل غافل وليستعد كل ظالم.. ولينتبه كل مسوف للتوبة ظنا منه أن هذه الدنيا دار إقامة.. ، ودار قرار.. كلا إن الدنيا دار ابتلاء وبوتقة اختيار.. ومهما طالت فهي قصيرة.. ومهما عَظُمَت فهي حقيرة، لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر.

استمع إلى حبيبك المصطفى وهو يبين لنا حقيقة هذه الدار في هذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة :
يقول الحبيب :(( إِنَّ ثَلاَثَةً نَفُرِ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكاً فَأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ أَىُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّى الَّذِى قَدْ قَذِرَنِى النَّاسُ([3]).فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ وَأُعْطِىَ لَوْناً حَسَناً وَجِلْداً حَسَناً قَالَ فَأَىُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الإِبِلُ - فَأُعْطِىَ نَاقَةً عُشَرَاءَ فَقَال:َ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا.
فَأَتَى الأَقْرَعَ فَقَالَ: أَىُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّى هَذَا الَّذِى قَذِرَنِى النَّاسُ.َ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ وَأُعْطِىَ شَعَراً حَسَناً.قَالَ: فَأَىُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ.فَأُعْطِىَ بَقَرَةً حَامِلاً وَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا قَالَ: فَأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ: أَىُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْك؟َ قَال:َ أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَىَّ بَصَرِى، فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاس. فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ .قَال:َ فَأَىُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْغَنَمُ . فَأُعْطِىَ شَاةً وَالِداً فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا - قَالَ - فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الإِبِلِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ»
اسمع أيها الحبيب : فأرسل الله جل وعلا المَلَك إليهم مرة أخرى لكن الملك ذهب إلى كل واحد منهم على صورته التي كان عليها من قبل فذهب الملك في صورة رجل أبرص إلى الرجل الأول.

يقول المصطفى : « ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِى صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ قَدِ انْقَطَعَتْ بِىَ الْحِبَالُ ([4]) فِى سَفَرِى فَلاَ بَلاَغَ لِىَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِى أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيراً أَتَبَلَّغُ به([5]) فِى سَفَرِى . فَقَالَ الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ . فَقَالَ: لَهُ كَأَنِّى أَعْرِفُكَ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ؟ فَقِيراً فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟! فَقَالَ إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِراً عَنْ كَابِرٍ!!»
استمع إيها الحبيب: ألم أقل لك أن الدنيا دار ابتلاء وبوتقة اختبار .. لما أعطاه الله المال نسى أصله ونسى فقره وعجزه وحين ينسى الإنسان أصله.. تعالى..، وتكبر..، واستعلى.. إذا نسى الإنسان أنه كان شىء لا يذكر
أَصْلُك يا ابن آدم من تراب.. وفصلُكَ يا ابن آدم من النطفة..!!
وأصْلُك يوطأ بالأقدام.. وفصلُكَ تطهر منه الأبدان..!!
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ([6])
ورد في مسند الإمام أحمد بسند حسن من حديث بُسر بن جُحاش القرشى أن رسول الله بصق يوماً في كفه فوضع عليها أصبعه ثم قال : قال الله عز وجل :« يا ابْنَ آدَمَ أَنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ؟ حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ قُلْت:َ أَتَصَدَّقُ وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ »([7]).
حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ([8])
أحبتى في الله نعود إلى الحديث : يقول الملك :
ألم تك أبرص يقذرك الناس ، فقيرا فأغناك الله؟!
فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر !! كلمتان كانت السبب في محو هذه النعمة وفي زوال هذا الخير..يقول له الملك : «إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت »
يعلق الحافظ ابن حجر في الفتح ويقول : وجاء في النص النبوي إن الله عز وجل قد فعل به ورده إلى ما كان إليه أول مرة.
ثم ذهب الملك إلى الرجل الثانى وقال لما مثل ما قال للرجل الأول فرد عليه مثل مارد عليه الرجل الأول فقال له الرجل الأول فقال الملك: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت فصار إلى ما كان كما قال الحافظ ابن حجر، ثم ذهب الملك إلى الرجل الثالث وهو الأعمى فقال:« رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ، شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي؟ فَقَال:َ قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، وَدَعْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ ([9]) الْيَوْمَ بشئ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ عز وجل
فَقَالَ الملك: أَمْسِكْ عليك مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رُضِيَ الله عَنْكَ، وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ ([10])
ألم أقل لك أيها الحبيب بأن الدنيا دار ابتلاء.. ألم أقل لك أيها الحبيب بأن الدنيا دار اختبار.
َاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ([11])

أيها الحبيب الكريم : قال لقمان الحكيم لولده: أى بنى إنك من يوم أن نزلت إلى الدنيا استدبرت الدنيا، واستقبلت الآخرة، فأنت على دار تقبل عليها أقرب من دار تبتعد عنها.

أيها الحبيب الكريم.. أيها الشاب .. أيها الوالد الفاضل.. أيتها الأخت الكريمة الفاضلة :

أيها الحبيب الكريم .. الدنيا دار ابتلاء وبوتقة اختبار، وليست دار قرار ، وإنما دار القرار هي الجنة، جنة الكبير المتعال أسأل الله أن يجعلنى وإياكم من أهلها.
هذا بإيجاز عن العنصر الأولى حتى أُعَرِّج على بقية عناصر الموضوع إن شاء الله جل وعلا.

ثانيا : خطر الذنوب والمعاصي

لما كان الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان ويعلم ضعفه وفقره وعجزه ويعلم أنه لا يستطيع أن يقنن أو يشرع لنفسه ما يسعده في الدنيا والآخرة. جعل الله للإنسان منهجا يضمن له السعادة في الدنيا والآخرة فقال:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ([12])
أيها الحبيب
وضع الله للبشرية منهجاً يضمن لها السعادة في الدنيا والآخرة. فمن اتبع منهج الله.
سعد في دنياه وسعد في أخراه، ومن أعرض عن منهج الله وعصى مولاه شقى في دنياه، وهلك في أخراه.
فالمعاصى سبب للشقاء في الدنيا والآخرة.. المعصية سبب للشقاء في الدنيا والآخرة.
الله جل وعلا يأمرك .. فاتمر نهاك فانتهى .. حد لك حدودا لسعادتك فامتثل حدود الله، وأوامر الله.. احفظ الله يحفظك..

يقول الحافظ ابن رجب : احفظ الله بالإمتثال لأوامره والإستجابة لنواهيه والوقوف عند حدوده. إن فعلت ذلك فأنت ممن حفظ أوامر الله تبارك وتعالى.

أيها الحبيب الكريم :

المعصية ابتعاد عن منهج الله، ابتعاد عن حدود الله، تحد لأوامر الله تبارك وتعالى، فمن أخطر آثار المعاصي والذنوب أنها أخرجت الأبوين الكريمين من الجنة. نعم بسبب المعصية. وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ([13]) . فمن الذي أخرج الأبوين الكريمين من الجنة.. وما الذي طرد إبليس من رحمة الله.. وما الذي أهلك قوم فرعون..وما الذي أهلك قوم عاد.. وما الذي أهلك قوم ثمود.. وما الذي أهلك قوم قارون..وما الذي أهلك الَّظلَمَةَ والفَّجَرَةَ والجبابرة في كل عصر وحين.. إنه شؤم المعاصى والذنوب. فالمعاصى سبب للشقاء في الدنيا والآخرة.
وانتبه أيها الحبيب الكريم : فمن أخطر آثار المعاصى والذبوب..

1- حرمان العلم:
يقول عبد الله بن مسعود ، فى قوله تبارك وتعالى:وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ([14])
انتبه.. فإن كثيراً من طلاب العلم يشتكى سوء حفظه وضعف ذاكراته ولو فتشت أيها الحبيب الكريم لعلمت أن السبب هو المعاصى والذنوب.
يقول ابن عباس:
إن للمعصية سواداً فى الوجه، وظلمة في القبر وَوَهَناً في البدن، وضيقاً في الرزق، وبُغضاً في قلوب الخلق، وإن للطاعة : نوراً في الوجه، ونوراً في القلب، وقوة فى البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق.

ويقول ابن مسعود :
إن لأحسب أن الرجل ينسى العلم يعلمه بالذنب يعمله.


لما أراد الشافعى الإمام أن يتلقى العلم على يدى. سيد المسلمين في زمانه الإمام مالك بن أنس بعدما تلقى العربية وفنونها في قبيلة هُذيل. عاد الشافعى يتكلم العربية بلغة فصيحة عجيبة فاغتاظ منه أحد بنى أعمامه وقال: يا شافعى يعز علىّ ألا أرى مع هذه اللغة فقهاً وعلماً. فقال الشافعى: فَعَلَى يَدِ مَنْ أطلب العلم : قال على يد سيد المسلمين، اذهب إلى مالك بن أنس فى مدينة رسول الله ، وانطلق هذا الشاب الزكى العبقري الصغير الذي لم يكن حينها قد جاوز الخامس عشرة من عمره، انطلق الشافعى ليبحث عن كتاب الإمام مالك «الموطأ» فاستعار الموطأ من رجل وعكف الشافعي مع الموطأ فحفظه عن ظهر قلب في تسع ليال. وأخذه في صدره، وانطلق إلى المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام.
وجلس الشافعى الإمام بين يدى أستاذه وشيخه مالك بن أنس وافتتح الشافعى الموطأ من حفظه ، فكلما نظر مالك إلى الشافعى يقرأ الموطأ من صدره أعجب بذكاءه، وبحسن قراءته وقوة حافظته وذاكرته وببلاغته.

يقول الشافعى: فكلما نظرت إلى مالك تهيبت أن أواصل القراءة، فنظر إلى مالك وقد أعجب بحسن قراءتى وحفظى وقال لى :زد يا فتى .. زد يا فتى .. زد يا فتى .. حتى أنهيت الموطأ كله في أيام قليلة. فلما رأى مالك هذا الذكاء وهذا الحفظ من الشافعى قال:

يا شافعى إنى أرى قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية.

أحبتى.. ألم أقل إن للطاعة نورا في الوجه ونورا في القلب وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبة في قلوب الخلق.

ألم أقل كما قال ابن عباس :

إن للمعصية سواداً في الوجه، وظلمة في القلب والقبر، وضيقاً في الرزق، ووهناًَ في البدن، وبُغضاً في قلوب الخلق.

فيا أيها الحبيب الكريم :
اعلم بأن من اخطر أثار الذنوب والمعاصى أن تحرم من العلم، فإن زلت قدمك..، وجاذبتك أشواك الطريق يا طالب العلم فأنت بشر.. لست ملكاً مقرب، ولست نبياً مرسلاً، إنما ورد في الحديث ان رسول الله قال:

« كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ » ([15])
فإن زلت قدمك وجاهدك أشواك الطريق فتب إلى الله، وعد إلى الله واعلم بأنك على الحق إن شاء الله جل وعلا.

2- حرمان الرزق:

فقد ورد في المسند بسند جيد بأن رسول الله قال: «وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ »
قد يقول قائل : ما بال هؤلاء الكفرة الملاحدة يتنعمون بأرزاق الله؟ نقول لقد تكفل الله سبحانه وتعالى برزق الخلق جميعاً من أخذ بالأسباب أعطته الأسباب النتائج بأمر مسبب الأسباب تبارك وتعالى حتى لو أخذ بهذه الأسباب كافر بمولاه.

هذا عهد الله جل وعلا ويتبقى الحساب في ويوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

وإذا رأيت الرجل في نعمة الله. فاعلم أنه استدراج له من الله إن كان على معصية مولاه، اسمع إلى الله جل وعلا وهم يقول:أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ ([16])
فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ([18])
كلا- كلا ليس الأمر كما تقولون وكما تدعون فليس كل من يسر الله عليه يكون قد فاز برضوان الله وليس كل من ضيُق عليه يكون قد باء بغضب الله .
إذن أيها الحبيب الكريم:
اعلم بأن من عند الله لا ينال إلا طاعته وإياك أن تظن أن ما عند الله ينال بمعصيته، واحراص على أن تأكل الحلال الطيب. فإن العمر قليل، وإن أقرب غائب تنتظره هو الموت، وإن جسداً نبت على السُّحت وعلى أكل الحرام، فالنار أولى به.

فإياك والرشوة، وإياك والحرام، وإياك والباطل، وإنما أدخل على ولدك الحلال الطيب.. ليربى الله لك ولدك التربية الطيبة الصالحة في حياتك وبعد مماتك.

وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا ([19])
دخلوا على عمر بن العزيز وهو على فراش الموت: وقالوا: يا أمير المؤمنين ألا توصى لأولادك بشىء، فلقد أقفرت أفواه بنيك. فقال : أجلسونى، فاجلسوه فقال: فوالله ما ظلمتهم حقا هو لهم، ولم أكن لأعطيهم شيئا لغيرهم، وإن وَصِىّ فيهم اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ([20])

وإنما ولد عمر بين أحد رجلين: إما رجل صالح فالله ستولى الصالحين وإما غير ذلك فلن أترك له ما يستعين به على معصية الله. ادعوا لى بنىّ، فأتوه.

فلما رأهم ترقرقت عيناه وقال: بنفسى فتنة تركتهم عالة لا شئ لهم وبكى، يا بنى إنى قد تركت لكم خيراً كثيراً، لا تمرون بأحد من المسلمين وأهل ذمتهم إلا رأوا لكم حقاً. يا بَنِىّ إنى قد خُيرت بين أمرين إما أن تستغنوا وأدخل النار أو تفتقروا إلى آخر يوم الأبد وأدخل الجنة، فأرى أن تفتقروا إلى ذلك أحب إلىّ، قوموا عصمكم الله، قوموا رزقكم الله.
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا ([21])

3- الذل والهوان:
لا تغتر بأهل الدنيا إن كانوا محادين لله ورسوله.
إن الله يذل العاصى لشهوته.. لكرسيه.. لزوجته..لابنه الضال.. وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذلك المعصيةفي قلوبهم.. يأبى الله إلا أن يذل من عصاه.
يا ابن آدم .. يا من عبدت الكرسى والمنصب الفانى.. إن غرتك قوتك فلم استحكمت فيك شهوتك، وإن غرك غناك فارزاق عباد الله في أرض الله يوماً واحداً.

وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا ([22])
لا على شرق ملحد، ولا على غرب كافر.وإنما على الله
من أعجب ما قرأت في الحلية لأبى نعيم : أن إبراهيم بن أدهم جلس يوما يأكل بعض قطع اللحم المشوى فجاءت قطة فأخذت قطعة لحم وانصرفت، فجرى وراءها إبراهيم بن أدهم ليراقب الموقف وإذ به يرى القطة تضع قطعة اللحم أمام جُحر مهجور فراقب الموقف بشدة وانتباه فينظر إبراهيم فيرى ثعباناً أعمى يخرج من جحره ليأخذ قطعة اللحم ويرجع مرة أخرى، فبكى إبراهيم بن أدهم ورفع رأسه إلى الرزاق ذى القوة المتين وقال: سبحانك يا من سخرت الأعداء يرزق بعضهم بعضاً.
وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
ولكن لما قَلَّت ثقتنا في الرزاق.. وضعف يقيننا فى الرزاق.. رأينا الفسق وباركناه، وفتحنا أندية القمار وزكيناه.. وفتحنا الأبواب على مصراعيها للسياحة الداعرة.. وقنَّنا وشَرَّعنا لهم شرب الخمور في بلاد المسلمين مادام أن المسلمين لا يشربون الخمر فما الضير في ذلك؟‍‍!ما داموا يدخلون لنا الأموال التى حرمها الكبير المتعال جل وعلا.

ليس هناك ثقة فى الرزاق !!والله سبحانه وتعالى يقول:وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ([23]) . الله أكبر

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ([24])

إذن أيها الحبيب الكريم من آثار المعاصى والذنوب .. الذل والذلة والمهانة.. العز في الطاعة.. والذل في المعصية.

المعصية ذلة وذل ومهانة وحقارة وضعف.. ولكن إن تبت إلى الله وعدت إلى الله فأنت كريم على الله .. عزيز على الله جل وعلا.

* وخذوا هذه العبارة التى ينبغى أن تسطر بالنور لا بالذهب من شيخ الإسلام والمسلمين القائم ببيان الحق ونصرة الدين : ابن تيمية رحمه الله وطيب الله ثُراه: يقول:
الأصل في الكبائر التوبة وليس إقامة الحدود.
عبارة عجيبة..إن وقعتَ في كبيرة من الكبائر وسَتَرَكَ الله، استرد على نفسك، وتب إلى الله جل وعلا.. أما إن وصل أَمرُك إلى ولى الأمر وجب عليه حينئذ أن يقيم عليك حد الله، ولا ينبغى أن تأخذنا الشفقة والعطف والرحمة بعينها هى أن يقام حد الله على الجاني، ليموت هذا من أجل أن يحيا المجتمع بأسره.

قال تعالى:وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ([25]) اسمع إلى المصطفى وهو حديث صحيح من حديث ثوبان أنه قال:
«ُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ »([26]).

الأمة الآن في ذل .. بسبب الإعراض عن منهج الله ... أذلها الله لإخوان القردة والخنازير من أبناء يهود.

لماذا؟ لأن الأمة قد تخلت عن أصل عزها وعن نبع شرفها وعن معين كرامتها ووجودها .

فراحت تبحث عن العز والسيادة في الشرق الملحد تارة ، وفي الغرب الكافر تارة أخرى ، فأذلها الله ، وسلط الله عليها ذلاَ لن ينزعه إلا إذا عادت مرة أخرى إلى دين ربها، وإلى كتاب ربها وإلى سنة الحبيب محمد .

ها نحن نرى الأمة الآن ذلت بعد عزة .. وضعفت بعد قوة .. وجَهِلَت بعد علم .. وأصبحت في ذيل قافلة الإنسانية ، بعد أن كانت بالأمس القريب تقود القافلة كلها بجدارة واقتدار .. ونرى الأمة الآن تتسول على موائد الفكر الإنساني، بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب ، منارة تهدى الحيارى وتائهين، الذين أحرقهم لفح الهاجرة القاتل وأرهقهم طول المشى في التيه والظلام ، ونرى الأمة اليوم تتأرجح في سيرها ولا تعرف طريقها التى يجب عليها أن تسلكه ، وأن تسير فيه بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب الدليل الحاذق الأرب في الدروب المتشابكة في الصحراء المهلكة التى لا يهتدي فيها إلا الأدلاء المجربون .

فمن أخطر آثار المعاصى والذنوب « الضنك والضيق » الذي يعيشه الناس

نعم أيها الأحباب :

ورد من حديث ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله قال:

« يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمِ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ » ([27])

فانظر أيها الحبيب إلى هذا الحديث العظيم وانظر إلى حالنا وتفكر .. كأن النبي يجسد حال الأمة الآن ..

أظهرنا الفاحشة .. فظهرت الأمراض والأوجاع وانقصنا الميزان .. فأخذنا بالسنين وشدة المؤونة، وهل هناك شدة أكثر مما نحن عليه.

ونقضنا عهد الله وعهد رسوله بعد أن بعدنا عن مصدر عزنا ونبع شرفنا .. فسلط الله علينا الآلام وطمع فينا الضعيف قبل القوى ، والذليل قبل العزيز ، والقاصى قبل الداني ، وسلبت أرضنا .. وضاع قدسنا وراح شرفنا ، وانتهك عرضنا وإنا لله وإنا إليه راجعون.

«مَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ إلا جعل الله بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ »

وضعنا كتاب الله وسنة رسول الله واستبدلنا بالعبير بعراً والثريا ثرى والرحيق المختوم حريقاً محرقا وشأننا في ذلك كشأن الجعل يتأذى من رائحة المسك الفواح ويحيى ويعيش ويسعد برائحة القذر والنتن في الخلاء والمستراح . وإن لله وإنا إليه راجعون .

وأخيراً من أثار المعاصى والذنوب .. وانتبه لهذه الأخيرة لأنها من أخطر آثار المعاصى والذنوب أيها الشباب .. أيها الأحباب.. أيتها الأخوات الفضليات.. إن إدمان المعصية يؤثر على صاحبها عند الموت فلا يتمكن من النطق بكلمة التوحيد.

والله إن لم يكن من آثار المعاصى والذنوب إلا هذه لارتعدت منها القلوب في الصدور.

يخون القلب واللسان صاحبه العاصى إذا نام على فراش الموت فكيف يوفق بالنطق بلا إله إلا ا وهملجت بهم البراذين فإن ذلك المعصيةفي قلوبهم.. يأبى الله إلا أن يذل من عصاه.

يا ابن آدم .. يا من عبدت الكرسى والمنصب الفانى.. إن غرتك قوتك فلم استحكمت فيك شهوتك، وإن غرك غناك فارزاق عباد الله في أرض الله يوماً واحداً.

وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا ([22])
لا على شرق ملحد، ولا على غرب كافر.وإنما على الله
من أعجب ما قرأت في الحلية لأبى نعيم : أن إبراهيم بن أدهم جلس يوما يأكل بعض قطع اللحم المشوى فجاءت قطة فأخذت قطعة لحم وانصرفت، فجرى وراءها إبراهيم بن أدهم ليراقب الموقف وإذ به يرى القطة تضع قطعة اللحم أمام جُحر مهجور فراقب الموقف بشدة وانتباه فينظر إبراهيم فيرى ثعباناً أعمى يخرج من جحره ليأخذ قطعة اللحم ويرجع مرة أخرى، فبكى إبراهيم بن أدهم ورفع رأسه إلى الرزاق ذى القوة المتين وقال: سبحانك يا من سخرت الأعداء يرزق بعضهم بعضاً.
وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ

ولكن لما قَلَّت ثقتنا في الرزاق.. وضعف يقيننا فى الرزاق.. رأينا الفسق وباركناه، وفتحنا أندية القمار وزكيناه.. وفتحنا الأبواب على مصراعيها للسياحة الداعرة.. وقنَّنا وشَرَّعنا لهم شرب الخمور في بلاد المسلمين مادام أن المسلمين لا يشربون الخمر فما الضير في ذلك؟‍‍!ما داموا يدخلون لنا الأموال التى حرمها الكبير المتعال جل وعلا.

ليس هناك ثقة فى الرزاق !!والله سبحانه وتعالى يقول:وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ([23]) . الله أكبر

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ([24])

إذن أيها الحبيب الكريم من آثار المعاصى والذنوب .. الذل والذلة والمهانة.. العز في الطاعة.. والذل في المعصية.

المعصية ذلة وذل ومهانة وحقارة وضعف.. ولكن إن تبت إلى الله وعدت إلى الله فأنت كريم على الله .. عزيز على الله جل وعلا.

* وخذوا هذه العبارة التى ينبغى أن تسطر بالنور لا بالذهب من شيخ الإسلام والمسلمين القائم ببيان الحق ونصرة الدين : ابن تيمية رحمه الله وطيب الله ثُراه: يقول:
الأصل في الكبائر التوبة وليس إقامة الحدود.
عبارة عجيبة..إن وقعتَ في كبيرة من الكبائر وسَتَرَكَ الله، استرد على نفسك، وتب إلى الله جل وعلا.. أما إن وصل أَمرُك إلى ولى الأمر وجب عليه حينئذ أن يقيم عليك حد الله، ولا ينبغى أن تأخذنا الشفقة والعطف والرحمة بعينها هى أن يقام حد الله على الجاني، ليموت هذا من أجل أن يحيا المجتمع بأسره.

قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ([25])اسمع إلى المصطفى وهو حديث صحيح من حديث ثوبان أنه قال:
«ُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ »([26]).

الأمة الآن في ذل .. بسبب الإعراض عن منهج الله ... أذلها الله لإخوان القردة والخنازير من أبناء يهود.

لماذا؟ لأن الأمة قد تخلت عن أصل عزها وعن نبع شرفها وعن معين كرامتها ووجودها .

فراحت تبحث عن العز والسيادة في الشرق الملحد تارة ، وفي الغرب الكافر تارة أخرى ، فأذلها الله ، وسلط الله عليها ذلاَ لن ينزعه إلا إذا عادت مرة أخرى إلى دين ربها، وإلى كتاب ربها وإلى سنة الحبيب محمد .

ها نحن نرى الأمة الآن ذلت بعد عزة .. وضعفت بعد قوة .. وجَهِلَت بعد علم .. وأصبحت في ذيل قافلة الإنسانية ، بعد أن كانت بالأمس القريب تقود القافلة كلها بجدارة واقتدار .. ونرى الأمة الآن تتسول على موائد الفكر الإنساني، بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب ، منارة تهدى الحيارى وتائهين، الذين أحرقهم لفح الهاجرة القاتل وأرهقهم طول المشى في التيه والظلام ، ونرى الأمة اليوم تتأرجح في سيرها ولا تعرف طريقها التى يجب عليها أن تسلكه ، وأن تسير فيه بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب الدليل الحاذق الأرب في الدروب المتشابكة في الصحراء المهلكة التى لا يهتدي فيها إلا الأدلاء المجربون .

فمن أخطر آثار المعاصى والذنوب « الضنك والضيق » الذي يعيشه الناس

نعم أيها الأحباب :

ورد من حديث ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله قال:

« يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمِ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ » ([27])

فانظر أيها الحبيب إلى هذا الحديث العظيم وانظر إلى حالنا وتفكر .. كأن النبي يجسد حال الأمة الآن ..

أظهرنا الفاحشة .. فظهرت الأمراض والأوجاع وانقصنا الميزان .. فأخذنا بالسنين وشدة المؤونة، وهل هناك شدة أكثر مما نحن عليه.

ونقضنا عهد الله وعهد رسوله بعد أن بعدنا عن مصدر عزنا ونبع شرفنا .. فسلط الله علينا الآلام وطمع فينا الضعيف قبل القوى ، والذليل قبل العزيز ، والقاصى قبل الداني ، وسلبت أرضنا .. وضاع قدسنا وراح شرفنا ، وانتهك عرضنا وإنا لله وإنا إليه راجعون.

«مَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ إلا جعل الله بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ »

وضعنا كتاب الله وسنة رسول الله واستبدلنا بالعبير بعراً والثريا ثرى والرحيق المختوم حريقاً محرقا وشأننا في ذلك كشأن الجعل يتأذى من رائحة المسك الفواح ويحيى ويعيش ويسعد برائحة القذر والنتن في الخلاء والمستراح . وإن لله وإنا إليه راجعون .

وأخيراً من أثار المعاصى والذنوب .. وانتبه لهذه الأخيرة لأنها من أخطر آثار المعاصى والذنوب أيها الشباب .. أيها الأحباب.. أيتها الأخوات الفضليات.. إن إدمان المعصية يؤثر على صاحبها عند الموت فلا يتمكن من النطق بكلمة التوحيد.

والله إن لم يكن من آثار المعاصى والذنوب إلا هذه لارتعدت منها القلوب في الصدور.

يخون القلب واللسان صاحبه العاصى إذا نام على فراش الموت فكيف يوفق بالنطق بلا إله إلا ا لله من غفل فى دنياه ، عن ذكر مولاه واتبع هواه ، وكان أمره فرطا؟

كيف يوفق للنطق بكلمة بالتوحيد؟

لا يوفق للنطق بكلمة التوحيد ، إلا من عاش في الدنيا على الطاعة وعاش على التوحيد ، وامتلأ قلبه بالتوحيد ، وتحرك التوحيد وأُشرِب قلبه التوحيد.

أما من عاش على المعاصى ، وأُشرِب قلبه بحب المعاصى ، وابتعد عن الطاعة، واستمر على غير حق، وعلى غير هدى .. هذا من عدل الله أنه يختتم له بسوء الخاتمة عياذا بالله .. أعاذنا الله وإياكم من سوء الخاتمة، فوالله إنما الأعمال بالخواتيم .

أخبرنا علماؤنا كابن القيم وابن الجوزى والطبري والطبرانى والقرطبى وغيرهم في مراجعهم: أن رجلاً كان يعمل بالأذان في مصر مدة طويلة وقام يوماً ليرفع الآذان ، فمرت عليه امرأة فسألته سؤالا وقالت: أين الطريق إلى حمام منجاب. فنظر الرجل إليها نظرة ، فوقعت في قلبه فأشار إلى باب داره وقال: هذا هو حمام منجاب، فدخلت المرأة الدار على أنه الحمام الذي يتجمل فيه النساء، فلما نظرت وعلمت أنها وقعت في فخ المعصية ، وأنه قد خدعها ، أظهرت له البشر والفرح بإجتماعها معه، وقالت له: يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا ، وتقر به عيوننا فقال لها : الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين وخرج ، وتركها في الدار، ولم يغلقها ، فأخذ ما يصلح لهما ورجع ، فوجدها قد خرجت وذهبت ، فهام الرجل ، وجعل يمشى في الطرقات ويقول:
يارب قائلةٍ يوما وقد تعبت أين الطريقُ إلى حمام منجاب


وظل الرجل يردد هذا البيت وامتنع عن الآذان وعن الصلوات إلى أن نام على فراش الموت فذهب إليه بعض الصالحين ليلقنوه كلمة التوحيد.. ويذكروه بالآذان الذى رفعه حيال السنوات الماضية نسأل الله العصمة والسلامة .. فكان يرد عليهم بقوله :

يارب قائلةٍ يوما وقد تعبت أين الطريقُ إلى حمام منجاب

وخُتَم له وهو يرد هذا البيت واليعاذ بالله.
فإنما الأعمال بالخواتيم يقول الحافظ ابن كثير:
لقد أجرى الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شئ مات عليه ومن مات على شئ بعث عليه .

فإن عشت على الطاعة مت على الطاعة وبعثت على الطاعة وإن عشت على المعصية مت على المعصية وبعثت على المعصية ففى صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله: أن رسول الله قال:

« يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ »([28])

فانتبه ! وأحذر نفسى وإياك ورب الكعبة إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ([29])

فإن العاصى يُخشى عليه أن يخونه قلبه ولسانه وجوارحه التى استغلها طيلة عمره في معصية الله جل وعلا.

فيا أيها الحبيب استعن بالله واستقم على الطاعة وابعد عن المعاصى والذنوب ، فإن البعد عن المعاصى والذنوب سبب رئيسى من أسباب حسن الخاتمة أسأل الله أن يختم لى ولك بها.

أما إذا ما ذل الإنسان ووقع في كبيرة من الكبائر أو معصية من المعاصى وضاقت عليه الأرض بما رحبت وضاقت عليه نفسه وظن أنه قد هلك .. وظن أنه قد ضاع ..ظن أنه قد فقد كل شئ

فليستمع إلى هذا النداء العلوى الندى الراقى .. الذي يملأ عليه أركان جوارحه وينادى عليه صاحب هذا النداء جل جلاله .. لا تقنط ولا تيأس .

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ([30])

يا الله نداء عَذب .. نداء ندىّ .. نداء رخىّ يملأ القلوب أمنا .. واطمئنانا ..ورجاءً في الرحيم الكريم اللطيف جل جلاله .

إن وقعت .. زلت قدمك فأنت بشر فأصنع سمعك ، وأحضر قلبك لهذا النداء العلوى الجليل

واسعد واسجد لربك شكراً أن نَسَبَكَ الله لتكون عبداًَ له .

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ

يا له من شرف ؟؟ أن ينسب الله الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصى والذنوب وجعلهم عباداً لعلام الغيوب جل جلاله.

من أنا ؟ومن أنت ؟ على المعصية ننسب عباداً لله .. ما طردنا الله من هذه الصلة.. لا والله لأنه خالقنا .. لأنه هو الذي يعلم ضعفنا ، ويعلم فقرنا ويعلم عجزنا.. ويعلم جهلنا .. ويعلم ذلنا.

فإن ذلت قوتُك ووقعت في كبيرة من الكبائر.. أو في معصية من المعاصى .. فهيا.. إياك أن يخذلك الشيطان .. وأن يصرفك عن قرع باب الرحيم الرحمن لاتتردد .. تعالى .. تعال إلى ربك .. على الرغم من ذنوبك .. على الرغم من معاصيك .. واسمع إلى الله.. إلى هذا النداء العلوىّ:

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ

اسمع إلى الله جل وعلا وهو ينادى عليك في الحديث القدسى الجليل الذى رواه مسلم والترمذى واللفظ للترمذى.

قال سبحانه وتعالى :« يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً »([31])

يا ابن آدم ! لوبلغت ذنوبك عنا السماء ثم استغفرتنى غفرت لك ولا أبالى .. إنها رحمة الله جل وعلا.. وفضل الله سبحانه وتعالى.

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

أقول قولى هذا واستغفر الله العظيم لى ولكم

الخطبة الثانية :

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .. وبعد .

هيا أيها الحبيب أقبل وتب إلى الله تبارك وتعال،أقلع عن المعاصى والذنوب ، يا من قضيت الوقت على المقاهي أمام المباريات .. وضيعت حق رب الأرض والسموات .. يا من أسرفت على نفسك بالمعاصى والذنوب.. انتبه فإن الموت قادم .. والله إن العمر قليل.. وإن أقرب قادم تنتظره هو الموت ولن تنفعك هذه اللحظات التى قضيتها أمام المباريات غافلاً عن السجود والركوع بين يدى رب الأرض والسموات يامن تجلس الآن على المقهى مضيعاً أمر الله ، وحق الله، وحق الله... أعلم بأنك على خطر ويخشى أن تموت على غير الإسلام.

هل من توبة ؟ هل من عودة ؟ هل من أوبة ؟ من منا سيعاهد الله الليلة أن يتوب إلى الله ؟ ... وأن يعود إليه .. وأن يحرص على صحبة الأطهار الأخيار الأبرار .. وأن يحرص أن يسأل من الليلة عن دينه، ليرضى ربه العزيز الغفار.. وليرضى نبيه المختار .. من منا سيعاهد الله بالتوبة والأوبة ؟

هيا تب إلى الله ، وعد إلى الله وأعلم بأن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة ومهما عظمت فهي حقيرة وأن الليل مهما طال ، لابد من طلوع الفجر وأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر... أعلم بأن السفر بعيد وبأن العقبة كؤود .. وبأن الناقد بصير.

سفرى بعيد وزادى لن يبلغنى وقوتى ضعفت والموت يطلبني
ولى بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمُها في السر والعلن
وأنا الذى أُغْلِقُ الأبواب مجتهداً على المعاصى وعين الله تنظُرُنَي
ما أحلمَ الله عنى حيث أمهلنى وقد تماديُت في ذنبى ويستُرني
كأننى بين تلك الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تُقلبُنَى
وقد أَتَوا بطبيب قد يعالِجَنى ولم آر الطبيب اليوم ينفعنى
واشتد نزعى وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون
كأننى وحولى من ينوح ومن يبكى على وينعانى ويندبنى
وقام من كان احب الناس فى عجل نحو المغسل يأتينى يغُسلى
فجائنى رجلٌ منهم فجردَّنى من الثيابَ وأعرانى وأفردَنى
وأودعونى على الألواحِ منطرحا وصار فوقَى خرير الماء ينظفني
وأسكب الماء فوقى وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القومَ وأعرانى وأفردنَى
وحمَّلونى على الأكتافِ أربعةٌ من الرجالِ وخلفى من يشيعنى
وأخرجونى من الدنيا فواأسفا على رحيل بلا زاد يبلغنى
وقدمونى إلى المحرابَ وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعنى
صلوا علىَّ صلاةً لا ركوعَ لها ولا سجودَ لعلَّ الله يرحمنى
وانزلوني إلى قبرى على مهلٍ وقَدَّموا واحداً منهم يُلَحدني
فكشف الثوبَ عن وجهي لينظرني فأسكب الدمع من عينيه أغرقنى
وقال هُلُّوا عليه التراب واعتنموا حسنَ الثوابِ من الرحمن ذى المَنن
وتقاسم الأهل مالى بعدما انصرفوا وصار وزرى على ظهرى فاثقلني
فلا تغرنك الدنيا وزينتها وانظر إلى فعلها في الأهل والوطن
يانفس كفى عن العصيان فعلا جميلاً لعل الله يرحمنى
يانفس ويحك توبى وأعملى حسنا عسى تجزين بعد الموت بالحسن
وأمنن على بعفو منك يا أملى فإنك أنت الرحمن ذو المننِ
أيا من يدعى الفهم الى كم يا أخى الوهم
تعب الذنب والذنب وتطى الخطأ الجم
أما بان لك العيب أما اذناك الشيب
وما فى نصحه ريب أما نادى بك الموت
أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت
فتحتاط وتهتم فكم تسير فى السهو
وتختال من الزهو وتنفض الى اللهو
كأن الموت ما عم كأنى بك تنحط
إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط
إلى أضيق من سم هناك الجسم مدود
ليستأ كله الدود إلى أن ينخر العود
ويمسى العظم قد رم فزود نفسك الخير
ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير
وخف من لجة اليم بذأ أوصيك يا صاح
وقد بحتك من باح فطوبى لفتى راح
بـــآداب محمـــــد يــأتــــم

يانفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل
فتأهبئ يانفس لايلعب بك الأمل الطويلُ
فلا تنزلن ينسى الخليل به الخليلُ وليركبن عليك فيه من الثى ثقلٌ ثقيلً
ُقِرَن الفناء بنا جميعا فلا يبقى العزيز ولا الذليل
هل من توبة ؟ هل من توبه ؟

وأول شرط من شروطها .. أن تقلع عن المعصية .. وشرطها الثاني وركنها الأعظم .. هو الندم على ما فرط منك ، وأن يتقطع قلبك وأن تحترق أحشاؤك وأن تقضى سائر عمرك على وجل ألا يقبلك الله في الصالحين.

يا من ضيعت الصلاة.. يا من ضيعت الزكاة.. يا من حاربت منهج الله.. يا من حاربت دين الله.. يا
من حاربت الأطهار والأخيار. يا من حاربت سنة المصطفى . يا من عققت أباك . يا من عققت أمك . يا من قطعت رحمك . يا من آذيت الجيران.. يا من آذيت الأحباب .. عد إلى الله وتب إلى الله.

واندم على ما فات .. واعلم بأن ربك غفور رحيم

وشرط التوبة الثالث أن تداوم على الطاعات وأن تعاهد رب الأرض والسموات .

اسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى ... وصفاته العلا... أن يرزقنا قبل الموت توبة .. اللهم ارزقنا قبل الموت توبة …. اللهم ارزقنا قبل الموت توبة …. وعند الموت شهادة …. وبعد الموت جنة ورضوانا.. اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا .. لا تدع لأحدِ منا في هذا الجمع المبارك ذنبا إلا غفرته .. ولا مريضاً إلا شفيته .. ولا دينا إلا أديته .. ولا طائعاً إلا ثبته .. ولا عاصياً إلا هديته.. ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يراب العالمين .. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً .. وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوما.. ولا تجعل اللهم فينا شقياً ولا محروماً.

اللهم اهدنا وأهد بنا واجعلنا سببا لمن اهتدى .

اللهم احفظ شبابنا واستر نساءنا.
اللهم وفق إخواننا وأبناءنا الطلاب وذلل لهم الصعاب.. ويسر لهم الأسباب وافتح لهم الأبواب وأدخل على أهلهم السعادة والسرور يا تواب اللهم أرحمنا برحمتك فأنك بنا راحم و لاتعذبنا فأنت علينا قادر اللهم لا تعاملنا بذنوبنا .. فأنت أهل التقوى وأهل المغفرة اللهم عاملنا بفضلك يا أهل الإحسان.
اللهم أنت غياثنا فبك نغوث.. وأنت عياذنا فبك نعوذ، اللهم أنت ملاذنا فبك نلوذ.. يا ودود يا ودود .. يا ذا العرض المجيد يا فعال لما يريد .. يا من ملأ نوره أركان عرشه.
يا مغيث المستغيثين ويا مجيب المضطرين . يا مفرج كرب المكروبين فرج كرب أمة حبيبك المصطفى اللهم أعز الإسلام والمسلمين واعل بفضلك كلمة الحق والدين ، اللهم فك أسر إخواننا المأسورين.. اللهم اربط على قلوبنا وإياهم يا أرحم الراحمين .
اللهم احفظ نساءهم .. واحفظ بناتهم .. واحفظ أولادهم .

اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا وارحمنا .. أنك أنت التواب الرحيم . هذا واستغفر الله لي ولكم .

هذا وما كان من توفيق فمن الله وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمنى ومن الشيطان والله ورسوله منه براء.

وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويقذف به في جهنم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
________
([1]) سورة الأنبياء: 35
([2])سورة الحديد:20.
([3]) أى تباعدوا عنى وكرهوني
([4]) أى الأسباب.
([5]) أى أبلغ بها المنزل الذي أريد.
([6]) سورة الأنفظار: 6-8
([7]) رواه أحمد في مستنده (4/210) ، (17809).
([8]) سورة المؤمنون: 99-100.
([9]) لا أجهدك: أى لا أشق عليك في الأخذ والامتنان
([10]) متفق عليه: [ ص.ج: 2052]، رواه البخارى( 6/364) في الأنبياء، ومسلم رقم (2964) في الزهد.
([11]) سورة الكهف:45-46.
([12]) سورة طه : 124-127.
([13]) سورة طه: 121.
([14]) سورة البقرة: 282.
([15])حسن: [ ص.ج: 4515]، [المشكاة: 2341] ،رواه الترمذى رقم (2501) في صفة القيامة وابن ماجة رقم ، (4251)، في الزهد، والدرامي (2/203) في الرقاق، وأحمد (3/198).
([16]) سورة المؤمنون: 55-56.
([17]) سورة الأنعام:44-45
([18]) سورة الفجر:15-16
([19]) سورة النساء: 9.
([20]) سورة الأعراف:196
([21]) سورة النساء:9.
([22]) سورة هود:6.
([23]) سورة الأعراف:96.
([24]) سورة نوح:10-13
([25]) سورة البقرة :179.
([26]) صحيح[ ص.ج: 8183]، أخرجه أبو داود رقم (4297) في الأمم ، ورواه أحمد(5/278) انظر
الصحيحة رقم (958)
([27]) صحيح[ صحيحة: 106]، جه (4019) نعيم في الحلية (8/333-334)
([28]) صحيح[ ص.ج: 8015]، رواه مسلم رقم( 2878) في الجنة باب الأمر بحسن الظن بالله عند الموت.
([29]) سورة: يوسف53.
([30]) سورة الزمر: 53.
([31]) حسن [ ص.ج: 4338]، [ الصحيحة: 127] ، [ المشكاة : 4336] . رواه الترمذى (2/270)، والدارمي(2/322)، وأحمد (5/172).

المواضيع المتشابهه:

 

المصدر: منتديات همس المصريين - من قسم: محاضرات وصوتيات الشيخ محمد حسان



قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ



وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ   (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)

 
الزمر - تفسير الدر المنثور   
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)

أخرج مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَامَ من اللَّيْل افْتتح صلَاته اللَّهُمَّ رب جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل {فاطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض} عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة أَنْت تحكم بَين عِبَادك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
اهدني لما اخْتلفت من الْحق بإذنك انك تهدي من تشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم

الْآيَات 49 - 52

(7/234)
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

أخرج الْفرْيَابِيّ وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر عَن مُجَاهِد رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله {ثمَّ إِذا خوّلناه نعْمَة منا} قَالَ: أعطيناه {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم} أَي على شرف أعطانيه
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر عَن مُجَاهِد رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله {ثمَّ إِذا خوّلناه نعْمَة منا} قَالَ: أعطيناه
وَعَن قَتَادَة فِي قَوْله {إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم} قَالَ: قَالَ: على خبر عِنْدِي {بل هِيَ فتْنَة} قَالَ: بلَاء
وَأخرج ابْن جرير عَن السّديّ رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله {قد قَالَهَا الَّذين من قبلهم} الْأُمَم الْمَاضِيَة {وَالَّذين ظلمُوا من هَؤُلَاءِ} قَالَ: من أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم /(7/234) الْآيَة 53 (7/235)

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)


أخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله {قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم} فِي مُشْركي أهل مَكَّة
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَالطَّبَرَانِيّ وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا [] فكتبتها بيَدي ثمَّ بعثت إِلَى هِشَام بن العَاصِي
وَأخرج الطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان بِسَنَد لين عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى وَحشِي بن حَرْب قَاتل حَمْزَة يَدعُوهُ إِلَى الإِسلام فَأرْسل إِلَيْهِ: يَا مُحَمَّد كَيفَ تَدعُونِي وَأَنت تزْعم أَن من قتل أَو أشرك أَو زنى (يلقَ أثاماً) (يُضَاعف لَهُ الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة ويخلد فِيهِ مهاناً) (الْفرْقَان 69) وَأَنا صنعت ذَلِك فَهَل تَجِد لي من رخصَة فَأنْزل الله (إِلَّا من تَابَ وآمن وَعمل عملا صَالحا فَأُولَئِك يُبدل الله سيئاتهم حَسَنَات وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما) (الْفرْقَان 70) فَقَالَ وَحشِي: هَذَا شَرط شَدِيد (إِلَّا من تَابَ وآمن وَعمل عملا صَالحا) (الْفرْقَان 70) فلعلي لَا أقدر على هَذَا
فَأنْزل الله (إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء) (النِّسَاء 48) فَقَالَ وَحشِي: هَذَا أرى بعد مَشِيئَة فَلَا يدْرِي يغْفر لي أم لَا فَهَل غير هَذَا فَأنْزل الله {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم} الْآيَة قَالَ وَحشِي: هَذَا فهم
فَأسلم فَقَالَ النَّاس: يَا رَسُول الله: إِنَّا أصبْنَا مَا أصَاب وَحشِي قَالَ: بلَى للْمُسلمين عَامَّة
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي سعيد قَالَ: لما أسلم وَحشِي أنزل الله (وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ) (الْفرْقَان 68) قَالَ وَحشِي وَأَصْحَابه: فَنحْن قد ارتكبنا هَذَا كُله
فَأنْزل الله {قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم} الْآيَة
وَأخرج مُحَمَّد بن نصر فِي كتاب الصَّلَاة عَن وَحشِي قَالَ: لما كَانَ فِي أَمر حَمْزَة (7/235)

مَا كَانَ ألْقى الله خوف مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قلبِي خرجت هَارِبا أكمن النَّهَار وأسير اللَّيْل حَتَّى صرت إِلَى أقاويل حمير فَنزلت فيهم فاقمت حَتَّى أَتَانِي رَسُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدعوني إِلَى الْإِسْلَام قلت: وَمَا الإِسلام قَالَ: تؤمن بِاللَّه وَرَسُوله وتترك الشّرك بِاللَّه وَقتل النَّفس الَّتِي حرم الله وَشرب الْخمر وَالزِّنَا وَالْفَوَاحِش كلهَا وتستحم من الْجَنَابَة وَتصلي الْخمس
قَالَ: إِن الله قد أنزل هَذِه الْآيَة {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم} فَقلت: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله فصافحني وَكَنَّانِي بِأبي حَرْب
وَأخرج البُخَارِيّ فِي الْأَدَب الْمُفْرد عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على رَهْط من أَصْحَابه يَضْحَكُونَ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو تعلمُونَ مَا أعلم لضحكتم قَلِيلا ولبكيتم كثيرا
ثمَّ انْصَرف وَبكى الْقَوْم فَأوحى الله إِلَيْهِ: يَا مُحَمَّد لم تقنط عبَادي فَرجع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ: أَبْشِرُوا وقربوا وسددوا
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه عَن عمر بن الْخطاب قَالَ: اتّفقت أَنا وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة وَهِشَام بن العَاصِي بن وَائِل أَن نهاجر إِلَى الْمَدِينَة
فَخرجت أَنا وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة وَهِشَام بن العَاصِي بن وَائِل أَن نهاجر إِلَى الْمَدِينَة
فَخرجت أَنا وَعَيَّاش وَفتن هِشَام فَافْتتنَ فَقدم على عَيَّاش أَخُوهُ أَبُو جهل والْحَارث بن هِشَام فَقَالَا: إِن أمك قد نذرت أَن لَا يُظِلّهَا ظلّ وَلَا يمس رَأسهَا غسل حَتَّى تراك
فَقلت: وَالله إِن يريداك إِلَّا أَن يفتناك عَن دينك وخرجا بِهِ

وفتنوه فَافْتتنَ قَالَ: فَنزلت {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله} قَالَ: عمر رَضِي الله عَنهُ: فَكتبت إِلَى هِشَام فَقدم
وَأخرج ابْن جرير وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله} وَذَلِكَ أَن أهل مَكَّة قَالُوا: يزْعم مُحَمَّد أَن من عبد الْأَوْثَان ودعا مَعَ الله إِلَهًا آخر وَقتل النَّفس الَّتِي حرم الله لم يغْفر لَهُ فَكيف نهاجر ونسلم وَقد عَبدنَا الْآلهَة وقتلنا النَّفس وَنحن أهل الشّرك فَأنْزل الله {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا} وَقَالَ (وأنيبوا إِلَى ربكُم وَأَسْلمُوا لَهُ) وَإِنَّمَا يُعَاتب الله أولي الْأَلْبَاب وَإِنَّمَا الْحَلَال وَالْحرَام لأهل الإِيمان فإياهم عَاتب وإياهم أَمر إِذا أسرف أحدهم على نَفسه أَن لَا يقنط من رَحْمَة الله وَأَن يَتُوب وَلَا يضن بِالتَّوْبَةِ على لَك الإِسراف

(7/236)


والذنب الَّذِي عمل وَقد ذكر الله تَعَالَى فِي سُورَة آل عمرَان الْمُؤمنِينَ حِين سَأَلُوا الْمَغْفِرَة فَقَالُوا: (رَبنَا اغْفِر لنا ذنوبنا وإسرافنا فِي أمرنَا) (آل عمرَان 147) فَيَنْبَغِي أَن يعلم أَنهم كَانُوا يصيبون الْأَمريْنِ فَأَمرهمْ بِالتَّوْبَةِ
وَأخرج ابْن جرير عَن عَطاء بن يسَار قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَات الثَّلَاث بِالْمَدِينَةِ فِي وَحشِي وَأَصْحَابه {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم} إِلَى قَوْله (وَأَنْتُم لَا تشعرون) (النِّسَاء 110)
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن عمر قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَة فِي عَيَّاش بن أبي ربيعَة والوليد بن الْوَلِيد وَنَفر من الْمُسلمين كَانُوا أَسْلمُوا ثمَّ فتنُوا وعذبوا فافتتنوا فَكُنَّا نقُول: لَا يقبل الله من هَؤُلَاءِ صرفا وَلَا عدلا أبدا
أَقوام أَسْلمُوا ثمَّ تركُوا دينهم بِعَذَاب عذبوه فَنزلت هَؤُلَاءِ الْآيَات وَكَانَ عمر بن الْخطاب كَاتبا فكتبها بِيَدِهِ ثمَّ كتب بهَا إِلَى عَيَّاش والوليد وَإِلَى أُولَئِكَ النَّفر
فاسلموا وَهَاجرُوا
وَأخرج أَحْمد وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان عَن ثَوْبَان قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: مَا أحب أَن لي الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا بِهَذِهِ الْآيَة {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم} إِلَى آخر الْآيَة
فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله فَمن أشرك فَسكت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِلَّا وَمن أشرك ثَلَاث مَرَّات
وَأخرج أَحْمد وَعبد بن حميد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه وَابْن الْمُنْذر وَابْن الْأَنْبَارِي فِي الْمَصَاحِف وَالْحَاكِم وَابْن مرْدَوَيْه عَن أَسمَاء بنت يزِيد سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا} وَلَا يُبَالِي أَنه هُوَ الغفور الرَّحِيم
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَعبد بن حميد وَابْن أبي الدُّنْيَا فِي حسن الظَّن وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَالطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان عَن ابْن مَسْعُود أَنه مر على قاصٍّ يذكر النَّاس فَقَالَ: يَا مُذَكّر النَّاس لَا تقنط النَّاس ثمَّ قَرَأَ {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله}
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن سِيرِين قَالَ: قَالَ عَليّ أَي آيَة أوسع فَجعلُوا يذكرُونَ آيَات من الْقُرْآن (من يعْمل سوء أَو يظلم نَفسه) (النِّسَاء 110)
وَنَحْوهَا
فَقَالَ عَليّ (7/237)
رَضِي الله عَنهُ: مَا فِي الْقُرْآن أوسع آيَة من {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم}
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم}
قد دَعَا الله إِلَى مغفرته من زعم أَن الْمَسِيح هُوَ الله وَمن زعم أَن الْمَسِيح ابْن الله وَمن زعم أَن عُزَيْرًا ابْن الله وَمن زعم أَن الله فَقير وَمن زعم أَن يَد الله مغلولة وَمن زعم أَن الله ثَالِث ثَلَاثَة
يَقُول الله تَعَالَى لهَؤُلَاء (أَفلا يتوبون إِلَى الله ويستغفرونه وَالله غَفُور رَحِيم) (الْمَائِدَة 74) ثمَّ دَعَا إِلَى تَوْبَته من هُوَ أعظم قولا من هَؤُلَاءِ
من قَالَ (أَنا ربكُم الْأَعْلَى) (النازعات 24) وَقَالَ (مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي) (الْقَصَص 38) قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: من آيس الْعباد من التَّوْبَة بعد هَذَا فقد جحد كتاب الله وَلَكِن لَا يقدر العَبْد أَن يَتُوب حَتَّى يَتُوب الله عَلَيْهِ
وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن عبيد بن عُمَيْر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: إِن إِبْلِيس قَالَ: يَا رب زِدْنِي قَالَ: صدوركم مسَاكِن لكم وَتجرونَ مِنْهُم مجْرى الدَّم قَالَ: يَا رب زِدْنِي
قَالَ: (اجلب عَلَيْهِم بخيلك ورجلك وشاركهم فِي الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد وعدهم وَمَا يعدهم الشَّيْطَان إِلَّا غرُورًا) (الْإِسْرَاء 64) فَقَالَ آدم عَلَيْهِ السَّلَام: يَا رب قد سلطته عليَّ وَأَنِّي لَا أمتنع مِنْهُ إِلَّا بك فَقَالَ: لَا يُولد لَك ولد إِلَّا وكلت بِهِ من يحفظه من قرناء السوء
قَالَ: يَا رب زِدْنِي
قَالَ: الْحَسَنَة عشرا أَو ازيد والسيئة وَاحِدَة أَو امحوها قَالَ: يَا رب زِدْنِي قَالَ: بَاب التَّوْبَة مَفْتُوح مَا كَانَ الرّوح فِي الْجَسَد
قَالَ: يَا رب زِدْنِي قَالَ {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا أَنه هُوَ الغفور الرَّحِيم}
وَأخرج أَحْمد وَأَبُو يعلى والضياء عَن أنس رضى الله عَنهُ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أخطأتم حَتَّى تملأ خطاياكم مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض ثمَّ استغفرتم لغفر لكم
وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَو لم تخطئوا لجاء الله بِقوم يخطئون ثمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيغْفر لَهُم
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَمُسلم عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لَوْلَا أَنكُمْ تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون فَيغْفر لَهُم
وَأخرج الْخَطِيب عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: أوحى الله إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ /(7/238)
السَّلَام: يَا دَاوُد إِن العَبْد من عَبِيدِي ليأتيني بِالْحَسَنَة فاحكمه فيّ
قَالَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام: وَمَا تِلْكَ الْحَسَنَة قَالَ: كربَة فرجهَا عَن مُؤمن قَالَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام: اللَّهُمَّ حقيق على من عرفك حق معرفتك أَن لَا يقنط مِنْك
وَأخرج الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قَالَ لي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: يَا مُحَمَّد إِن الله يخاطبني يَوْم الْقِيَامَة فَيَقُول: يَا جِبْرِيل مَا لي أرى فلَان بن فلَان فِي صُفُوف أهل النَّار فَأَقُول: يَا رب إِنَّا لم نجد لَهُ حَسَنَة يعود عَلَيْهِ خَيرهَا الْيَوْم
فَيَقُول الله: إِنِّي سمعته فِي دَار الدُّنْيَا يَقُول: يَا حنان يَا منان فأته فَاسْأَلْهُ فَيَقُول وَهل من حنان ومنان غَيْرِي فآخذ بِيَدِهِ من صُفُوف أهل النَّار فَادْخُلْهُ فِي صُفُوف أهل الْجنَّة
وَأخرج ابْن الضريس وَأَبُو القسام بن بشير فِي أَمَالِيهِ عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: إِن الْفَقِيه كل الْفَقِيه من لم يقنط النَّاس من رَحْمَة الله تَعَالَى وَلم يرخص لَهُم فِي مَعَاصيه وَلم يؤمنهم عَذَاب الله وَلم يدع الْقُرْآن رَغْبَة مِنْهُ إِلَى غَيره إِنَّه لَا خير فِي عبَادَة لَا علم فِيهَا وَلَا علم لَا فهم فِيهِ وَلَا قِرَاءَة لَا تدبر فِيهَا
وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن عَطاء بن يسَار رَضِي الله عَنهُ قَالَ: إِن للمتقنطين جِسْرًا يطَأ النَّاس يَوْم الْقِيَامَة على أَعْنَاقهم
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَابْن الْمُنْذر عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: ألم أحدث أَنَّك تعظ النَّاس قَالَ: بلَى
قَالَت: فإياك واهلاك النَّاس وتقنيطهم
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَابْن الْمُنْذر عَن زيد بن أسلم رَضِي الله عَنهُ أَن رجلا كَانَ فِي الْأُمَم الْمَاضِيَة يجْتَهد فِي الْعِبَادَة ويشدد على نَفسه ويقنط النَّاس من رَحْمَة الله تَعَالَى ثمَّ مَاتَ فَقَالَ: أَي رب مَا لي عنْدك قَالَ: النَّار قَالَ: فَأَيْنَ عبادتي واجتهادي فَقيل لَهُ كنت تقنط النَّاس من رَحْمَتي وَأَنا اقنطك الْيَوْم من رَحْمَتي
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر عَن قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: ذكر لنا أَن نَاسا أَصَابُوا فِي الشّرك عظاماً فَكَانُوا يخَافُونَ أَن لَا يغْفر لَهُم فَدَعَاهُمْ الله لهَذِهِ الْآيَة {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا}
وَأخرج عبد بن حميد عَن أبي مجلز لَاحق بن حميد السدُوسِي قَالَ: لما أنزل الله على نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا}

(7/239)

إِلَى آخر الْآيَة قَامَ نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخَطب النَّاس وتلا عَلَيْهِم
فَقَامَ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله والشرك بِاللَّه فَسكت فَأَعَادَ ذَلِك مَا شَاءَ الله فَأنْزل الله (إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء) (النِّسَاء 48)
وَأخرج عبد بن حميد عَن عِكْرِمَة رَضِي الله عَنهُ {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم} إِلَى قَوْله (وأنيبوا إِلَى ربكُم وَأَسْلمُوا لَهُ) (الزمر 54) قَالَ عِكْرِمَة رَضِي الله عَنهُ: قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِيهَا علقَة (وأنيبوا إِلَى ربكُم)


الْآيَات 54 - 59

(7/240)  

====================
الزمر - تفسير أبي السعود

وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)

{وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} أي ظهرَ لهم من فُنون العقوباتِ ما لم يكن في حسابهم وهذه غاية من الوعيد لا غاية وراءها ونظيره في الوعد قولُه تعالى فَلاَ تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرة أعين {وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} سيئات أعمالِهم أو كسبِهم حين تُعرض عليهم صحائفهم {وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُواْ بِهِ يستهزؤون} أي أحاطَ بهم جزاؤُه

(7/258)


فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)

{فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا} إخبارٌ عن الجنسِ بما يفعله غالبُ أفرادِه والفاءُ لترتيب ما بعدها من المناقضةِ والتَّعكيسُ على ما مرَّ من حالتيهم القبيحتينِ وما بينهما اعتراضٌ مؤكِّدٌ للإنكار عليهم أي أنَّهم يشمئزُّون عن ذكرِ الله تعالى وحدَهْ ويستبشرون بذكرِ الآلهةِ فإذا مسَّهم ضُرٌّ دَعَوا مَن اشمأزُّوا عن ذكره دون مَن استبشرُوا بذكرِه {ثُمَّ إِذَا خولناه نِعْمَةً مّنَّا} أعطيناهُ إياها تفصلا فإنَّ التَّخويل مختصٌ به لا يُطلق على ما أُعطي جزاءً {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ} أي على علم منِّي بوجوهِ كسبه أو أبى فأعطاه لما لي من الاستحفاق أو على علمٍ من الله تعالى بي وباستحقاقي والهاءُ لِمَا أنْ جُعلتْ موصولةً وإلاَّ فلِنعمةً والتَّذكيرُ لما أن المراد شئ نعمة {بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ} أي محنةٌ وابتلاءٌ له أيشكرُ

(7/258)


الزمر 50 53 أم يكفرُ وهو ردٌّ لما قاله وتغييرُ السَّبكِ للمبالغة فيهِ والإيذانِ بأنَّ ذلك ليس من باب الإيتاء المنبئ عن الكرامةِ وإنَّما هو أمر مباين له بالكُلِّيةِ وتأنيثُ الضَّميرِ باعتبار لفظ النِّعمةِ أو باعتبار الخبر وقرئ بالتَّذكيرِ {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أن الأمر كذلك وفيه دلالة على أن المراد بالإنسانِ هو الجنسُ

(7/259)


قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)

{قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ} الهاء لقوله إنَّما أُوتيته على علمٍ لأنَّها كلمة أو جملة وقرئ بالتَّذكيرِ والموصول عبارةٌ عن قارونَ وقومِه حيثُ قال إنما أوتيته على علم عندي وهم راضُون به {فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من متاعِ الدُّنيا ويجمعون منه

(7/259)


فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)

{فأصابهم سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} جزاءُ سيِّئاتِ أعمالِهم أو أجزبة ما كسبُوا وتسميتها سيِّئاتٍ لأنَّها في مقابلة سيِّئاتِهم وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا {والذين ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلاَء} المشركين ومِن للبيان أو للتَّبعيضِ أي أفرطوا في الظُّلم والعُتوِّ {سَيُصِيبُهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} من الكُفر والمعاصي كا أصاب أولئك والسِّينُ للتَّأكيدِ وقد أصابهم أيَّ إصابةٍ حيثُ قحطوا سبعَ سنين وقُتل صناديدُهم يومَ بدرٍ {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي فائنين

(7/259)


أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

{أولم يَعْلَمُواْ} أي أقالُوا ذلك ولم يعلمُوا أو أَغفلُوا ولم يعلمُوا {أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء} أنْ يبسطَه له {وَيَقْدِرُ} لمن يشاء أن يقدرَه له من غيرِ أن يكون لأحدٍ مدخلٌ ما في ذلك حيثُ حبسَ عنهم الرِّزقَ سبعاً ثم بسطَه لهم سبعاً {إِنَّ فِى ذَلِكَ} الذي ذكر {لاَيَاتٍ} دالَّةً على أنَّ الحوادثَ كافَّةً من الله عزَّ وجلَّ {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إذ هم المستدلُّون بها على مدلولاتها

(7/259)


قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)

{قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} أي أفرطُوا في الجنايةِ عليها بالإسرافِ في المعَاصي وإضافةُ العبادِ تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن الكريم {لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} أي لا تيأسُوا من مغفرته أولاً ولا تفضُّلِه ثانياً {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} عفواً لمن يشاءُ ولو بعد حينٍ بتعذيب في الجملة وبغيره حسبما يشاء وتقييده بالتَّوبةِ خلاف الظَّاهرِ كيف لا وقوله تعالى إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ظاهرٌ في الإطلاقِ فيما عدا الشِّركَ وممَّا يدلُّ عليه التَّعليلُ بقوله تعالى {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} على المبالغة وإفادةِ الحصرِ والوعد بالرَّحمةِ بعد المغفرة وتقديمُ ما يستدعي عمومَ المغفرة في عبادي من الدِّلالةِ على الذِّلَّةِ والاختصاص المقتضيينِ للتَّرحم وتخصيصُ ضررِ الإسرافِ بأنفسهم والنَّهيُ عن القُنوطِ مطلقاً عن الرَّحمةِ فضلاً عن المغفرة وإطلاقِها وتعليلهُ بأنَّ الله يغفرُ الذُّنوبَ ووضعُ الاسمِ الجليلِ موضعَ

(7/259)


الزمر 54 59 الضَّميرِ لدلالتهِ على أنَّه المستغنِي والمنعمُ على الإطلاقِ والتأكيد بالجميعِ وما رُوي من أسبابِ النُّزولِ الدَّالَّةِ على ورود الآيةِ فيمن تابَ لا يقتضِي اختصاصَ الحكم بهم ووجوبُ حملِ المطلقِ على المقيِّد في كلامِ واحدٍ مثل أكرمِ الفضلاء أكرمِ الكاملينَ غيرُ مسلَّمٍ فكيف فيما هو بمنزلةِ كلامٍ واحدٍ ولا يخلُّ بذلك الأمرُ بالتَّوبةِ والإخلاصِ في قوله تعالى

(7/260)


وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)

{وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لاَ تنصرون} اذ ليسَ المدَّعَى أنَّ الآيةَ تدلُّ على حصولِ المغفرةِ لكل أحدٍ من غير توبةٍ وسبقِ تعذيبٍ لتُغنيَ عن الأمرِ بهما وتُنافي الوعيدَ بالعذابِ

(7/260)


وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)

{واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ} أي القرآنَ أو المأمورَ به دون المنهيِّ عنه أو العزائمَ دون الرُّخصِ أو النَّاسخَ دون المنسوخِ ولعلَّه ما هو أنجى وأسلم كالإنابةِ والمواظبةِ على الطَّاعةِ {من قبل أن يأتيكم العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} بمجيئِه لتتداركوا وتتأهَّبوا له

(7/260)


أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)

{أَن تَقُولَ نَفْسٌ} أي كراهةَ أنْ تقولَ والتَّنكيرُ للَّتكثيرِ كما في قولِه تعالى عملت نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ فإنَّه مسلكٌ ربَّما يسلك عند إرادة التكثيرِ والتَّعميمِ وقد مرَّ تحقيقُه في مطلع سورة الحجر {يا حسرتى} بالألفِ بدلاً من ياءِ الإضافةِ وقُرىء يا حسرتَاه بهاء السَّكتِ وقفاً وقُرىء ياحسرتاي بالجمعِ بين العوضينِ وقُرىء ياحسرتي على الأصلِ أي احضُرِي فهذا او ان حُضورِك {على مَا فَرَّطَتُ} أي على تفريطي وتقصيرِي {فِى جَنبِ الله} أي جانبه وفي حقَّه وطاعتِه وعليهِ قولُ مَن قالَ ... أَمَا تتَّقينَ الله في جنبِ وامق ... لَه كَبدٌ حَرَّى وَعَينٌ ترقرقُ ...
وهو كنايةٌ فيها مبالغة وقيل في ذاتِ الله على تقديرِ مضافٍ كالطَّاعة وقيل في قُربِه من قوله تعالى والصاحب بالجنب وقُرىء في ذكرِ الله {وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين} أي المُستهزئين بدينِ الله تعالى وأهلِه ومحلُ الجملةِ النصبُ على الحالِ أي فرَّطتُ وأنا ساخرٌ

(7/260)


( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )




=====






الزمر - تفسير أضواء البيان












بسم اله الرحمن الرحيم
سورة الزمر
قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} .
قد دل استقراء القرآن العظيم، على أن الله جل وعلا، إذا ذكر تنزيله لكتابه، أتبع ذلك ببعض أسمائه الحسنى، المتضمنة صفاته العليا.
ففي أول هذه السورة الكريمة، لما ذكر تنزيله كتابه، بين أنَّ مبدأ تنزيله كائن منه جل وعلا، وذكر اسمه الله، واسمه العزيز، والحكيم، وذكر مثل ذلك في أول سورة الجاثية، في قوله تعالى: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، وفي أول سورة الأحقاف في قوله تعالى: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} .
وقد تكرر كثيراً في القرآن، ذكره بعض أسمائه وصفاته، بعد ذكر تنزيل القرآن العظيم، كقوله في أول سورة: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ، وقوله تعالى في أول فصلت: {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وقوله تعالى في أول هود {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ، وقوله في فصلت: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، وقوله تعالى في صدر يس {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} ، وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} . وقوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} .
ولا يخفى أن ذكره جل وعلا هذه الأسماء الحسنى العظيمة، بعد ذكره تنزيل هذا القرآن العظيم، يدل بإيضاح، على عظمة القرآن العظيم، وجلالة شأنه وأهمية نزوله،

(6/351)


والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} .
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم. في هذه الآية الكريمة، أن يعبده في حال كونه، مخلصاً له الدين، أي مخلصاً له في عبادته، من جميع أنواع الشرك صغيرها وكبيرها، كما هو واضح من لفظ الآية.
والإخلاص، إفراد المعبود بالقصد، في كل ما أمر بالتقرب به إليه، وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من كون الإخلاص في العبادة لله وحده، لا بد منه، جاء في آيات متعددة، وقد بين جل وعلا، أنه ما أمر بعبادة، إلا عبادة يخلص له العابد فيها.
أما غير المخلص فكل ما أتى به من ذلك، جاء به من تلقاء نفسه، لا بأمر ربه، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، وقال جل وعلا {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} ، إلى قوله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} .
وقد قدمنا الكلام على العمل الصالح، وأنه لا بد فيه من الإخلاص، في أول سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} . وفي غير ذلك من المواضع.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أي: التوحيد الصافي من شوائب الشرك، أي: هو المستحق لذلك وحده، وهو الذي أمر به.
وقول من قال من العلماء: "إن المراد بالدين الخالص كلمة: لا إله إلا الله" موافق لما ذكرناه. والعلم عند الله تعالى.
ثم لما ذكر جل وعلا إخلاص العبادة له وحده، بين شبهة الكفار التي احتجوا بها، للإشراك به تعالى، في قوله تعالى هنا: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} .
فبين أنهم يزعمون أنهم ما عبدوا الأصنام، إلا لأجل أن تقربهم من الله زلفى، والزلفى: القرابة.

(6/352)


فقوله: {زُلْفَى} ، ما ناب عن المطلق من قوله: {لِيُقَرِّبُونَا} ، أي: ليقربونا إليه قرابة تنفعنا بشفاعتهم في زعمهم.
ولذا كانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك".
وقد قدمنا في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أن هذا النوع من ادعاء الشفعاء، واتخاذ المعبودات من دون الله وسائط من أصول كفر الكفار.
وقد صرح تعالى بذلك في سورة يونس في قوله جل وعلا: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
فصرح تعالى بأن هذا النوع، من ادعاء الشفعاء شرك بالله، ونزه نفسه الكريمة عنه، بقوله جل وعلا: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، وأشار إلى ذلك في آية الزمر هذه، لأنه جل وعلا لما قال عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أتبع ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} .
وقوله: {كَفَّارٌ} ، صيغة مبالغة، فدل ذلك على أن الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، جامعون بذلك بين الكذب والمبالغة في الكفر بقولهم ذلك، وسيأتي إن شاء الله لهذا زيادة إيضاح في سورة الناس.
قوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} .
قد قدمنا الآيات الموضحة، بكثرة في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} .
قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه خلق بني آدم من نفس واحدة هي أبوهم

(6/353)


آدم، ثم جعل من تلك النفس، زوجها يعني حواء. أي وبث جميع بني آدم منهما، وأوضح هذا في مواضع أخر من كتابه، كقوله تعالى في أول سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} ، وقوله في الأعراف: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} ، وتأنيث الوصف، بقوله: {وَاحِدَةٍ} ، مع أن الموصوف به مذكر، وهو آدم؛ نظراً إلى تأنيث لفظ النفس، وإن كان المراد بها مذكراً، ونظير ذلك من كلام العرب قوله:
أبوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفة ذاك الكمال
قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} .
قد قدمنا إيضاح هذه الأزواج الثمانية بنص القرآن العظيم، في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} . قوله تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِأُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج، في الكلام على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} وبينا هناك المراد بالظلمات الثلاث المذكورة هنا.
قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} .
قد بين جل وعلا، في هذه الآية الكريمة، أنه غني عن خلقه الغنى المطلق، وأنه لا يضره كفرهم به، والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة، كقوله تعالى {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} ، وقوله تعالى: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} ، وقوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} . وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} وقوله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} ، وقد أوضحنا هذا بالآيات في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك.

(6/354)


قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} .
قد قدمنا إيضاحه مع إزالة الإشكال، والجواب عن الأسئلة الواردة، على تلك الآيات في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ، وأوضحنا ذلك، مع إزالة الإشكال في بعض الآيات، في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} .
قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يونس، في الكلام على قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً} .
قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} .
قد قدمنا الآيات الموضحة له مع الإشارة إلى بحث أصوله في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
قوله تعالى: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} .
الظاهر أن معنى الآية: أن الإنسان إذا كان في محل لا يتمكن فيه من إقامة دينه على الوجه المطلوب، فعليه أن يهاجر منه، في مناكب أرض الله الواسعة، حتى يجد محلاً تمكنه فيه إقامة دينه.
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} . وقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} ، ولا يخفى أن الترتيب بالفاء في قوله: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} على قوله: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} دليل واضح على ذلك.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} .

(6/355)


قد قدمنا الآيات الموضحة له، من أوجه في سورة يونس، في الكلام على قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} .
قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} .
قد قدمنا الآيات الموضحة له، في سورة الأنبياء، في الكلام على قوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} ، وذكرنا طرفاً من ذلك، في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} .
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} .
ما تضمنته هذه الآية الكريمة، من تحقيق معنى لا إله إلا الله، قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية، في سورة الفاتحة، في الكلام على قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} .
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} .
أظهر الأقوال في الآية الكريمة، أن المراد بالقول، ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، من وحي الكتاب والسنة، ومن إطلاق القول على القرآن قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} . وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أي: يقدمون الأحسن، الذي هو أشد حسناً، على الأحسن الذي هو دونه في الحسن، ويقدمون الأحسن مطلقاً على الحسن. ويدل لهذا آيات من كتاب الله.
أما الدليل على أن القول الأحسن المتبع. ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من الوحي، فهو في آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وقوله تعالى لموسى يأمره بالأخذ بأحسن ما في التوراة: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} .
وأما كون القرآن فيه الأحسن والحسن، فقد دلت عليه آيات من كتابه.
واعلم أولاً أنه لا شك في أن الواجب أحسن من المندوب، وأن المندوب أحسن من

(6/356)


مطلق الحسن، فإذا سمعوا مثلاً قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قدموا فعل الخير الواجب، على فعل الخير المندوب، وقدموا هذا الأخير، على مطلق الحسن الذي هو الجائز، ولذا كان الجزاء بخصوص الأحسن الذي هو الواجب والمندوب، لا على مطلق الحسن، كما قال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وقال تعالى: {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وبينا هناك دلالة الآيات على أن المباح حسن، كما قال صاحب المراقي:
ما ربنا لم ينه عنه حسن ... وغيره القبيح والمستهجن
ومن أمثلة الترغيب في الأخذ بالأحسن وأفضليته مع جواز الأخذ بالحسن قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} فالأمر في قوله: {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} للجواز، والله لا يأمر إلا بحسن. فدل ذلك على أن الانتقام حسن، ولكن الله بين أن العفو والصبر، خير منه وأحسن في قوله: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، كقوله تعالى في إباحة الانتقام: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} ، مع أنه بين أن الصبر والغفران خير منه، في قوله بعده: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ، وكقوله في جواز الانتقام: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} ، مع أنه أشار إلى أن العفو خير منه، وأنه من صفاته جل وعلا مع كمال قدرته وذلك في قوله بعده: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} . وكقوله جل وعلا مثنياً على من تصدق، فأبدى صدقته {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} ثم بين أن إخفاءها وإيتاءها الفقراء، خير من إبدائها الذي مدحه بالفعل الجامد، الذي هو لإنشاء المدح الذي هو نعم، في قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} .

(6/357)


وكقوله في نصف الصداق اللازم، للزوجة بالطلاق، قبل الدخول: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ، ولا شك أن أخذ كل واحد من الزوجين النصف حسن، لأن الله شرعه في كتابه في قوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ، مع أنه رغب كل واحد منهما، أن يعفو للآخر عن نصفه، وبين أن ذلك أقرب للتقوى وذلك في قوله بعده: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} .
وقد قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ثم أرشد إلى الأحسن بقوله {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ، وقال تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ، ثم أرشد إلى الأحسن، في قوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} .
واعلم أن في هذه الآية الكريمة أقوالاً غير الذي اخترنا.
منها ما روي عن ابن عباس، في معنى: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} قال: «هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن، وينكف عن القبيح، فلا يتحدث به».
وقيل: "يستمعون القرآن وغيره، فيتبعون القرآن".
وقيل: "إن المراد بأحسن القول: لا إله إلا الله"، وبعض من يقول بهذا يقول: "إن الآية نزلت فيمن كان يؤمن بالله قبل بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، كزيد بن عمرو بن نفيل العدوي، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي"، إلى غير ذلك من الأقوال.
قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} .
أظهر القولين في الآية الكريمة: أنهما جملتان مستقلتان، فقوله: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} ، جملة مستقلة، لكن فيها حذفاً، وحذف ما دل المقام عليه واضح، لا إشكال فيه.
والتقدير: أفمن حق عليه كلمة العذاب، تخلصه أنت منه؟ والاستفهام مضمن معنى النفي، أي: لا تخلص أنت يا نبي الله أحداً سبق في علم الله أنه يعذبه من ذلك العذاب، وهذا المحذوف دل عليه قوله بعده: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} .
وقد قدمنا مراراً قولي المفسرين في أداة الاستفهام المقترنة بأداة عطف كالفاء والواو

(6/358)


اثْنَيْنِ} .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من سورة الزمر، قد أوضحناه في أول سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} .
قوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} .
قد قدمنا الكلام على ما يماثله من الآيات في سورة الروم في الكلام على قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} ، وأحلنا عليه في سورة فاطر، في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} .
قوله تعالى: {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} .
قوله: {ثُمَّ يَهِيجُ} : أي: ثم بعد نضارة ذلك الزرع وخضرته ييبس، ويتم جفافه ويثور من منابته فتراه أيها الناظر مصفراً يابساً، قد زالت خضرته ونضارته. {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً} أي: فتاتاً، متكسراً، هشيماً، تذروه الرياح، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور من حالات ذلك الزرع، المختلف الألوان، {لَذِكْرَى} أي: عبرة وموعظة وتذكيراً {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} . أي: لأصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال، فقد ذكر جل وعلا مصير هذا الزرع على سبيل الموعظة والتذكير، وبين في موضع آخر، أن ما وعظ به خلقه هنا من حالات هذا الزرع شبيه أيضاً بالدنيا. فوعظ به في موضع وشبه به حالة الدنيا في موضع آخر، وذلك في قوله تعالى في سورة الحديد: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} . ويبين في سورة الروم أن من أسباب اصفراره المذكور إرسال الريح عليه، وذلك في قوله: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} .
قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} .
قد تقدم الكلام عليه في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ

(6/360)


أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} .
قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} ، وفي غير ذلك من الموضع.
قوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} . وقوله في هذه الآية الكريمة: {قُرْآناً} انتصب على الحال وهي حال مؤكدة، والحال في الحقيقة هو: {عَرَبِيّاً} ، و {قُرْآناً} توطئة له، وقيل: انتصب على المدح.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {عَرَبِيّاً} ، أي: لأنه بلسان عربي كما قال تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . وقال تعالى في أول سورة يوسف: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . وقال في أول الزخرف: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . وقال في طه {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} ، وقال تعالى في فصلت: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} ، وقال تعالى في الشعراء: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ، وقال تعالى في سورة الشورى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} .
وقال تعالى في الرعد: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وهذه الآيات القرآنية تدل على شرف اللغة العربية وعظمها، دلالة لا ينكرها إلا مكابر.

(6/361)


قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} .
أوضح جل وعلا، أن الذي في هذه الآية بمعنى الذين، بدليل قوله بعده: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} .
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن الذي تأتي بمعنى الذين، في القرآن وفي كلام العرب، فمن أمثلة ذلك في القرآن، قوله تعالى في آية الزمر هذه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} . وقوله تعالى في سورة البقرة: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراًً} أي: الذين استوقدوا بدليل قوله بعده: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} وقوله فيها أيضاً: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} أي: كالذين ينفقون بدليل قوله بعده: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} . وقوله تعالى في التوبة: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} على القول بأن "الذي" موصولة لا مصدرية، ونظيره من كلام العرب: قول أشهب بن رميلة:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
وقول عديل بن الفرخ العجلي:
فبت أساقي القوم إخوتي الذي ... غوايتهم غيٌّ ورشدهم رشد
وقول الراجز:
يا رب عبس لا تبارك في أحد ... في قائم منها ولا فيمن قعد
إلا الذي قاموا بأطراف المسد
قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} .
قوله تعالى: {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
قد قدمنا الآيات الموضحة له، في هذه السورة الكريمة، في الكلام على قوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وفي سورة

(6/362)


النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنفال، في الكلام على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وعلى قراءة الجمهور بكاف عبده، بفتح العين وسكون الباء، بإفراد العبد، والمراد به، النبي صلى الله عليه وسلم. كقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} .
وأما على قراءة حمزة والكسائي عِبادَهُ بكسر العين وفتح الباء بعدها ألف على أنه جمع عبد، فالظاهر أنه يشمل عباده الصالحين من الأنبياء وأتباعهم.
قوله تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن الكفار عبدة الأوثان، يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم، بالأوثان التي يعبدونها من دون الله، لأنهم يقولون له: إنها ستضره وتخبله، وهذه عادة عبدة الأوثان لعنهم الله، يخوفون الرسل بالأوثان ويزعمون أنها ستضرهم وتصل إليهم بالسوء.
ومعلوم أن أنبياء الله عليهم صلوات الله وسلامه، لا يخافون غير الله ولا سيما الأوثان، التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع، ولذا قال تعالى عن نبيه إبراهيم لما خوَّفوه بها: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} .
وقال عن نبيه هود وما ذكره له قومه من ذلك: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
وقال تعالى في هذه السورة الكريمة، مخاطباً نبينا صلى الله عليه وسلم، بعد أن ذكر تخويفهم له بأصنامهم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ

(6/363)


دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونََ} .
ومعلوم أن الخوف من تلك الأصنام من أشنع أنواع الكفر والإشراك بالله.
وقد بين جل وعلا في موضع آخر، أن الشيطان يخوف المؤمنين أيضاً، الذين هم أتباع الرسل من أتباعه وأوليائه من الكفار، كما قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
والأظهر أن قوله: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} حذف فيه المفعول الأول، أي يخوفكم أولياءه، بدليل قوله بعده: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} .
قوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} .
ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن المعبودات
من دونه، لا تقدر أن تكشف ضراً أراد الله به أحداً، أو تمسك رحمة أراد بها أحداً، جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} ، وقوله تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} . وقوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الصافات، في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} .
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ

(6/364)


الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين ظلموا وهم الكفار، ولو كان لهم في الآخرة ما في الأرض جميعاً ومثله معه، لفدوا أنفسهم به من سوء العذاب الذي عاينوه يوم القيامة، وبين هذا المعنى في مواضع أخر وصرح فيها بأنه لا فداء ألبتة يوم القيامة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} . وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} ، وقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . وقوله تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} . فقوله {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} أي: وإن تفتد كل فداء، وقوله تعالى: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} . وقوله {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} ، والعدل: الفداء وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} .
وقد قدمنا طرفاً من هذا في سورة آل عمران، في الكلام على قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} .
قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} .
قوله: {وَبَدَا لَهُمْ} أي: {ظهر لهم سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أي: جزاء سيئاتهم التي اكتسبوها في الدنيا، فالظاهر أنه أطلق السيئات هنا مراداً بها جزاؤها.
ونظيره من القرآن قوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} .
ونظير ذلك أيضاً إطلاق العقاب، على جزاء العقاب، في قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} .

(6/365)


وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أنهم يبدوا لهم يوم القيامة، حقيقة ما كانوا يعملونه في الدنيا جاء موضحاً في آيات أخر، كقوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} وقوله تعالى: {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} ، وقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} . وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} . وقوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يونس، في الكلام على قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ} .
قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة في قوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} ، وقدمنا طرفاً منه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
قوله تعالى: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .
قد قدمنا الآيات الموضحة له من جهات في سورة الأعراف، في الكلام على قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} .
قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} .
قد قدمنا الكلام عليه وعلى ما يماثله من الآيات في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى: {يَيوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} .

(6/366)


قوله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} .
تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية، مع بيان جملة من آثار الكِبَر السيئة، في سورة الأعراف، في الكلام على قوله تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} .
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} .
قد تقدم الكلام عليه في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وقد ذكرنا في سورة المائدة الآية المتضمنة للقيد الذي لم يذكر في هذه الآيات على قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} .
قوله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يس، في الكلام على قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} .
قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} .
قد قدمنا إيضاحه، بالآيات القرآنية، في سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} .
قوله تعالى: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} .
اختلف العلماء في المراد بالشهداء في هذه الآية الكريمة، فقال بعضهم: هم الحفظة من الملائكة الذين كانوا يحصون أعمالهم في الدنيا. واستدل من قال هذا بقوله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} .
وقال بعض العلماء: الشهداء: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يشهدون على الأمم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} .

(6/367)


وقيل: الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، وأظهر الأقوال في الآية عندي: أن الشهداء هم الرسل من البشر، الذين أرسلوا إلى الأمم، لأنه لا يقضي بين الأمة حتى يأتي رسولها، كما صرح تعالى بذلك في سورة يونس في قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} فصرح جل وعلا بأنه يسأل الرسل عما أجابتهم به أممهم، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} ، وقال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} . وقد يشير إلى ذلك قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} لأن كونه صلى الله عليه وسلم هو الشهيد على هؤلاء الذين هم أمته، يدل على أن الشهيد على كل أمة هو رسولها.
وقد بين تعالى أن الشهيد على كل أمة من أنفس الأمة، فدل على أنه ليس من الملائكة، وذلك في قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} والرسل من أنفس الأمم كما قال تعالى في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} . وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} .
والمسوغ للإيجاز بحذف الفاعل في قوله تعالى: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} هو: أنه من المعلوم الذي لا نزاع فيه، أنه لا يقدر على المجيء بهم إلا الله وحده جل وعلا.
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير الكسائي وهشام عن ابن عامر {وَجِيءَ} بكسر الجيم كسرة خالصة.
وقرأه الكسائي وهشام عن ابن عامر بإشمام الكسرة الضم.
وإنما كان الإشمام هنا جائزاً، والكسر جائزاً، لأنه لا يحصل في الآية البتة، لبس بين المبني للفاعل، والمبني للمفعول، إذ من المعلوم أن قوله هنا: وجيء مبني للمفعول ولا يحتمل البناء للفاعل بوجه، وما كان كذلك جاز فيه الكسر الخالص وإشمام الكسرة الضم كما أشار له في الخلاصة بقوله:
واكسر أو أشمم فا ثلاثي أعل ... عيناً وضم حاء كبوع فاحتمل

(6/368)


أما إذا أسند ذلك الفعل إلى ضمير الرفع المتصل، فإن ذلك قد يؤدي إلى اللبس، فيشتبه المبني للمفعول، بالمبني للفاعل، فيجب حينئذ اجتناب الشكل الذي يوجب اللبس، والإتيان بما يزيل اللبس من شكل أو إشمام كما أشار له في الخلاصة بقوله:
وإن بشكل خيف لبس يجتنب
ومن أمثلة ذلك قول الشاعر، -وقد أنشده صاحب اللسان-:
وإني على المولى وإن قل نفعه ... دفوع إذا ما صمت غير صبور
فقوله: "صمت" أصله: صيمت بالبناء للمفعول فيجب الإشمام أو الضم لأن الكسر الخالص يجعله محتملاً للبناء للفاعل كبعت وسرت. وقول جرير يرثي المرار بن عبد الرحمن بن أبي بكرة:
وأقول من جزع وقد فتنا به ... ودموع عيني في الرداء غزار
للدافنين أخا المكارم والندا ... لله ما ضمنت بك الأحجار
أصله: فوتنا بالبناء للمفعول فيجب الكسر أو الإشمام لأن الضم الخالص يجعله محتملاً للبناء للفاعل، كقلنا وقمنا.
قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} .
الزمر: الأفواج المتفرقة، واحده: زمرة، وقد عبر تعالى عنها هنا بالزمر، وعبر عنها في الملك بالأفواج في قوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} ، وعبر عنها في الأعراف بالأمم في قوله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ} .
وقال في فصلت: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} وقال تعالى: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} .
ومن إطلاق الزمر على ما ذكرنا قوله:

(6/369)


وترى الناس إلى منزله ... زمراً تنتابه بعد زمر
وقول الراجز:
إن العفاة بالسيوب قد غمر ... حتى احزألت زمراً بعد زمر
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} .
لم يبين جل وعلا هنا عدد أبوابها المذكورة، ولكنه بين ذلك، في سورة الحجر في قوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} .
وقوله تعالى: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: (فُتِّحت) يالتاء.
قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} .
قد قدمنا الآيات الموضحة له، في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} .
قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . قد قدمنا الآيات الموضحة له، في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة إذا دخلوها وعاينوا ما فيها من النعيم، حمدوا ربهم وأثنوا عليه، ونوهوا بصدق وعده لهم، وذكر هذا المعنى في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ

(6/370)


وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . وقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً} .
وقوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} .
تم بحمد الله تفسير سورة الزمر /(6/371) 



معني شاء ومشيئة وشيئا من لسان العرب

  شيأ الـمَشِيئةُ: الإِرادة.   شِئْتُ الشيءَ أَشاؤُه شَيئاً ومَشِيئةً ومَشاءة ومَشايةً(1) / (1 قوله «ومشاية» كذا في النسخ والمحكم   وقال شا...