لا تقنطوا من رحمة الله
اليأس والقنوط
حقيقته وأسبابه ومظاهره وعلاجه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. ثم أما بعد:
إخوتي الكرام، حديثنا اليوم عن خلق آخرَ من مساوئ الأخلاق، وخصلة من قبيح الخصال، عن داءٍ يجعل النفوس ترضى بكل منكر، وتنأى عن كل خير، وتسدّ باب الأمل، وتستبعد حصولَ الفرَج... داءٌ من ابتلي به عاش في دنياه في قلق وحيْرَة واضطراب، وفوّتَ على نفسه ما به تكون النجاة ويكون الفوز والفلاح في الدار الآخرة.. ذلكم هو داء اليأس والقنوط. آفة كبرى، وبلية عظمى، تطفئ سراج الأمل، فيترك العبد العمل، ويَخلد إلى الكسل...
مفهوم اليأس والقنوط وخطورته:
اليأس: هو القطع على أنّ المطلوبَ لا يتحَصّلُ، لتحققِ فواتِه.
والقنوط: هو شدة اليأس من الخير.
اليأس والقنوط: سَـدّ لباب التفاؤل والأمل، وتوَقعٌ للخيبة والفشل، واستبعادٌ للفرَج بعد الشدة، واليُسْر بعد العُسْر.. وتغييبٌ للرّجاء في رَحمة الله وعفوه وغفرانه...
واليائسُ القنوط: من ضاقت نفسُه من كثرة الذنوب، وتوالي الهموم، فلا يتوقعُ الخيرَ ولا يرجو الفرَج..
اليأسُ والقنوط: كبيرة من كبائر الذنوب، وصفة من صفات أهل الكفر والضلال؛ فلا ييأسُ من رحمة الله إلا القوم الذين حادُوا عن الطريق وضلوا عن السبيل، وتركوا الرجاء في الله، لعدم علمهم بربهم، ولجهلهم بكمال فضله وعظيم كرَمه وإحسانه سبحانه...
قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿ قالَ وَمَنْ يَقنَطُ مِن رَحْمَةِ رَبِّهِ إلا الضَّالونَ ﴾. [الحجر:56].
وقال عز وجل على لسان يعقوبَ عليه السلام: ﴿ إِنَّهُ لا يَيْأسُ مِن رَوْحِ اللَّهِ إلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾. [يوسف:87].
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: "الكبائر؛ الإشراكُ بالله، والأمْن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من رَوْح الله". أخرجه الطبراني وعبد الرزاق، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة.
أسباب اليأس والقنوط:
اليأس والقنوط؛ داء ابتلي به كثير من الناس، لأسباب كثيرة، ودواعي عديدة...
فمن الناس من أصيب باليأس والقنوط، نتيجة جهله بالله تعالى، وعدم معرفته بسَعَة رحمة الله وعظيم فضله وكرمه وإحسانه...
ومن الناس من أصيب باليأس والقنوط، بسبب غلوّه وإفراطِه في الخوف من الله تعالى، حتى وقع في اليأس من رَوْحه، والقنوطِ من رحمته.. فحَدّ الخوْفِ ما حَجزك عن المعاصي. أما ما زاد على ذلك فهو غيرُ محتاج إليه، لأنه يُوقع صاحبه في اليأس والقنوط، وفيه سوءُ أدب مع رحمة الله التي سبقت غضبه سبحانه.
ومن الناس من أصيب باليأس والقنوط، نتيجة مصاحبته لليائسين والقانطين والمقنطين؛ فإنّ مصاحبة هؤلاء والإنصاتَ لهم، والاستسلامَ لكلامهم، والركونَ إلى أقوالهم باعِثٌ قوي على القنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى.
ومن الناس من أصيب باليأس والقنوط، بسبب قلة صبره وتحمّله واستعجاله للنتائج؛ فإنّ ضَعْفَ النفوس عن تحمّل البلاء والصبر عليه، واستعجالَ حصول الخير، باعث على اليأس والقنوط، لاسيما مع طول الزمن واشتداد البلاء على الإنسان..
ومن الناس من أصيب باليأس والقنوط، نتيجة شدةِ تعلقِهِ بالدنيا والركونِ إليها والفرَحِ بأخذها؛ فهو يحزن ويتأسف على ما فاته منها من جاه وسلطان وأولاد ومال وعافية...
وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿ وَإذا أذقنَا النَّاسَ رَحْمَة فرحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَة بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ إذا هُمْ يَقنَطونَ ﴾ [الروم: 36]. ويقول سبحانه: ﴿ لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَسَّهُ الشَّرّ فَيَئُوسٌ قنُوطٌ ﴾. ويقول عز وجل: ﴿ وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرّ كانَ يَؤُوسا ﴾ [الإسراء: 83].
مظاهرُ اليأس والقنوط:
لليأس والقنوط صور كثيرة، ومظاهرُ عديدة، كلها تبعث على الحزن والأسى، وتورث القلق والهمّ، وتفوّت على المرء مصالحَ دنياه وأخراه.
ومِن أخطر مظاهر اليأسِ والقنوطِ: اليأسُ والقنوط من مغفرة الله ورحمته؛ حين يظنّ المرء أنه قد هلك وخاب وخسر، ويقطع على نفسه باب الرجاء، ويسدّ على نفسه باب الأمل في عفو الله والطمع في مغفرته ورحمته، فيترُك العمل، ويَخلد إلى الخمول والكسل، ويخوض مع الخائضين، ولا يسلك طريق التائبين...
فلِمَ يُغلقُ المرءُ على نفسه باب التوبة والرجاء؟ والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ قلْ يَا عِبَادِيَ الذِينَ أسْرَفوا عَلى أنْفسِهِمْ لا تقنَطوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
يقول ابن كثير رحمه الله: "هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العُصاة من الكفرَة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبارٌ بأنّ الله - تبارك وتعالى - يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت، وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر...".
ولِمَ يُغلقُ المرءُ على نفسه باب الرجاء؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييئس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار». أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ولِمَ يُغلقُ المرءُ على نفسه باب الرجاء؟ وأبوابُ الخيرات كثيرة، وأسباب المغفرة عديدة... فرائضُ ونوافل، واجبات ومستحبات، جود وإحسان، ذكر ودعاء وقرآن... فهنيئا لمن اجتهد في أنواع الطاعات والقربات لكسب ما به يثقل ميزانه من الحسنات.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم اليوم صائما؟». قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة؟». قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. قال: «فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟». قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضا؟». قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمعْنَ في امرئ إلا دخل الجنة».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حُطتْ خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر». متفق عليه.
اليأس والقنوط من زوال الشدائد وتفريج الكُرَب؛ فمن الناس من إذا اشتدّتْ عليه الكروب، وأحاطت به الهموم، وتوالت عليه المصائب، فأصيب بمرض في بدنه، أو بإعاقة في جسده، أو بفقد لماله أو منصبه، أو بعُقم أو عقوق أو قطيعة... أصابه الجزع واليأسُ والقنوط، وغاب عنه الصبر والرضا، وسدّ على نفسه بابَ الأمل والرجاء..
فمَن الذي أنزل من السماء ماء بعدما قنط العباد من شدة القحط والجفاف؟. إنه الله؟. ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيّ الْحَمِيدُ ﴾ [الشورى: 28].
ومَن الذي كشفَ الضرّ عن أيّوبَ حين ناداه؟ إنه الله. ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 83، 84].
ومَن الذي رزق عبده زكرياء بغلام بعدما كبرت سنة واشتعل رأسه شيبا؟ إنه الله. ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 89، 90].
ومَن الذي نجّا نبيَّه موسى ومن معه بعدما أدركه فرعون وجنده؟ إنه الله. ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴾ [الشعراء: 61 - 66].
ومَن الذي نجّا نبيَّه إبراهيم بعدما ألقِيَ في نار مشتعلة؟ إنه الله.﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 68 - 70].
ومَن الذي نجّى نبيّه محمدا صلى الله عليه وسلم بعدما أحاط به الأعداء وهو في غار ثور؟ إنه الله. ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].
فمَهْمَا كانتْ هُمُومُك ومَصائبك، لا تيأسْ من رَوْح الله، ولا تقنط من رحمته، ففضلُ الله عظيم، وكرَمُه جزيل، وعَطاؤه عَميم، ورَحمته وَسِعَتْ كل شيء.. وقد قال سبحانه: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62]
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال يُستجابُ للعبد ما لم يَدْعُ بإثم أو قطيعةِ رَحِم، ما لم يَستعجلْ». قيل يا رسول الله؛ ما الاستعجال؟ قال: «يقول: قد دَعَوْتُ وقد دَعَوْتُ فلم أرَ يَستجيبُ لي، فيَسْتحْسِرُ عند ذلك ويَدَعُ الدعاء».
اليأس والقنوط من توبة العُصاة؛ فإذا رأيتَ كثرة العُصاة، وانتشارَ المنكرات، فلا تيأس ولا تقطع باب الرجاء، بلْ قمْ بدورك في بذل النصيحة والدعوة إلى الخير بالموعظة الحسنة، وكن قدوة حسنة في أقوالك وأفعالك وأخلاقك.. فقد قال سبحانه: ﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّة مِنْهُمْ لِمَ تَعِظونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 164].
وإياك أن تحكم على الناس بالهلاك والخسران نتيجة عصيانهم وغفلتهم، فهذا تألّ على الله وتطاوُلٌ على حق من حقوقه.. فالأمرُ أمرُه، والمُلك مُلكه، والهداية بيده سبحانه، وهو أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ الراحمين..
روى مسلم في صحيحه عَنْ أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ، فهُوَ أهْلكهُمْ" قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ لاَ أَدْرِى أَهْلَكَهُمْ بِالنَّصْبِ؛ أَوْ أَهْلَكُهُمْ بِالرَّفْعِ..
وعن جندب بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثَ: «أن رجلا قال: والله لا يغفرُ الله لفلان. وإنّ الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفرَ لفلان؟. فإني قد غفرت لفلان، وأحبطتُ عملك». أخرجه مسلم.
علاج اليأس والقنوط:
إخوتي الكرام؛ اليأسُ والقنوط داء عضال، ومرض فتاك، فما السبيل إلى وقاية النفس منه؟.
أولا: الإيمان بأسماء الله وصفاته؛ فإنّ العلمَ والإيمان بأسماء الله وصفاته الدالة على رحمته ومغفرته وكرَمه وَجُوده وحِلمه ولطفه وإحسانه... مما يجعل المسلم راجيا لرحمة الله، طامعا في مغفرته وإحسانه، غيرَ آيس من رَوْحِه وفضلِه وعطائِه... ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ [الشورى: 25، 26].
فلا ييأسُ مِن رحمتِه مَن يخافُ انتقامَه، ولا يأمَنُ انتقامَه مَنْ يرجو رحمَته، وذلك باعث على مُجانبةِ السيئة ولو كانت صغيرة، وملازمةِ الطاعة ولو كانت قليلة...
يقول العَلاّمة محمد السفاريني رحمه الله: (حالُ السلف؛ رَجاءٌ بلا إهمال، وخوف بلا قنوط. ولابدّ من حُسن الظن بالله تعالى).
فعلى العبد أن يكون بين الخوف والرجاء؛ يخاف الله ولا يقنط من رحمته، يخاف ذنوبه، ويعمل بطاعة ربه، ويرجو رحمته... فقد قال تعالى في مدح عباده المؤمنين: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾. [الأنبياء: 90].
ثانيا: حُسْنُ الظن بالله، ورَجاءُ رحمتِه؛ فواجبٌ على العبد أن يُحسن الظن بربه، وعليه أن يتدبرَ الآياتِ والأحاديثَ الواردةَ في كرَم الله وعفوه ورحمته ومغفرته، مع الأخذِ بالأسباب التي اقتضتها حِكمة الله تعالى في شرْعه وقدَره وثوابه وكرامته...
فلا ييئسُ مَكروبٌ من الفرَج، ولا ييأسُ مُبتلىً في بدنه أو ماله أو ولده من الفرَج، ولا تيأسُ امرأة عقيم من رحمة الله، ففضلُ الله عظيم، والأملُ في رحمته كبير!.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة». متفق عليه.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم؛ إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي. يا ابن آدم؛ لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم؛ إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة». أخرجه الترمذي وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "إنّ ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وَزَنَوْا وأكثروا، فأتوْا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحَسَن، لو تخبرُنا أنّ لِمَا عَمِلنا كفارة؟". فنزل: ﴿ والذين لا يدعون مع الله إلها آخرَ ولا يقتلون النفس التي حَرّمَ الله إلا بالحق ولا يزنون ﴾... [الفرقان: 68]. ونزلتْ: ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ﴾... [الزمر: 53].
ثالثا: الصبرُ، مع تمام الرضا بقضاء الله وقدَره؛ فإذا علم المرءُ وأيقن أن ما حصل له إنما هو بقضاء الله وقدَرهِ، استراحَ قلبُه، ولم ييأس لفوات شيء... قال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾. [الحديد: 22].
وقال سبحانه: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾. [التغابن:11].
فليس للمسلم في أيام الرخاء أنفعُ من الشكر والثناء، وليس له في أيام البلاء أنجعُ من الصبر والدعاء، فذلك مما يجعل المسلم ينطلق نشيطاً قوياً مهما تتابعت الفتن أو تواترت المصائب من بين يديه أو من خلفه؛ لأنه يعلم أن الأمر بيد الله، وأن الملك كله لله، وأن الله وعد عباده باليُسر والفرَج، فقال سبحانه: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5، 6]. وقال عز وجل: ﴿ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ﴾ [الطلاق: 7].
وقال نبينا صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس رضي الله عنه: «...واعلمْ أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرَج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا». أخرجه الإمام أحمد، وصححه شعيب الأرناؤوط في تعليقه على المسند..
وعن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن، إنّ أمرَه كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سَرّاء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرا له». رواه مسلم.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تمني الموت بسبب الضر والبلاء، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يُدخِلَ أحدا عمله الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: « لا، ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا، ولا يتمنيَنّ أحدكم الموت: إما مُحسنا فلعله أن يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يَسْتعتِب».
رابعا: التأسي بأنبياء الله ورُسُلِه؛ ففي سِيَرهِم أروع الأمثلة في الصبر والثبات وعدم اليأس والقنوط، لبثوا في أقوامهم يدعونهم ويعلمونهم سنين عددا، من غير ملل ولا يأس ولا قنوط، وما دعا بعضهم على قومه بالهلاك إلا من بعد أن بين الله له وأوحى إليه: ﴿ أنه لن يؤمن من قومك إلا مَن قد آمن ﴾ [هود: 36]..
ومن أروع القصص في الصبر على البلاء، وحسن الظن بالله، ورجاء الفرَج من الله، وعدم اليأس والقنوط: قصة نبي الله يعقوب عليه السلام عند فقده لابنه يوسف عليه السلام.
فعندما جاءه نعيُ أحبّ أولاده إليه يوسفُ عليه السلام لم يفقدْ صَوَابَه، بل قابلَ قدَرَ الله النازل بالصبر والحِلم والاستعانة بالله تعالى في رَفعِه. ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18].
ولما عَظمَت المصيبة بفقد ابنه الثاني ازداد صبرُه، وعظم رجاؤه في الفرَج من الله سبحانه، ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف:83].
وحين عُوتِبَ في تذكّرِ يوسف عليه السلام بعد طول الزمان وانقطاع الأمل وحصول اليأس في رجوعه، قال بلسان المؤمن الواثق في وعد الله برفع البلاء عن الصابرين وإجابة دعوة المضطرين: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 86].
فلم ييأس ولم يقطع الأمل، بل أخذ بالأسباب في السعي والبحث عن يوسف وأخيه، فقال لأبنائه: ﴿ يَا بَنِيَّ اذهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]. فكانت العاقبة لمن صبر وأمّلَ ورضي ولم يتسخط، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ﴾. جاء البشير مِنْ عندِ الحبيب مبشراً باللقاء القريب، فألقى قميصَ يوسف عَلَى وَجْهِهِ فرجع البصر، وبلغ الأمل، وزال الكرْب، وحصل الثواب لمن صبر ورضي وأناب.. ﴿ قالَ ألمْ أقلْ لكُمْ إنِّي أعْلمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تعْلمُونَ ﴾ [يوسف: 96].
ولرُبّ نازلة يَضيق بها الفتى
ذرْعا وعند الله منها المَخرَجُ
ضاقتْ فلما استحكمَتْ حلقاتها
فُرِجَتْ وكان يظنها لا تفرَجُ
|
فاتقوا الله عباد الله، وعلقوا قلوبكم بالله، ولا تيأسوا من رَوْح الله، ولا تقنطوا من رحمة الله، فإن الله غفور رحيم، تواب حليم، جواد كريم...
فاللهم اجعل لنا ولكل مسلم من كل همٍ فرَجاً، ومن كل ضيقٍ مخرَجاً، ومن كل بلوى عافية، ومن كل فاحشةٍ أمناً، ومن كل فتنةٍ عصمة...
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرّهْ إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا مولانا من الراشدين..
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين أجمعين.. يا رب العالمين.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الالوكة
=============2========
لا تقنطوا من رحمة الله للشيخ : سعيد بن مسفر
نَهَجَ الإسلام في التعامل مع النفس البشرية منهجاً عظيماً، ينطلق من علم الله عز وجل فهو الذي خلق النفس وسواها، وألهمها فجورها وتقواها، فهو يعلم ضعفها وحقارتها وتسلط الشهوات والشبهات عليها. ومن طبيعة النفس البشرية أنها جبلت على الخطأ لكن الله جعل لها باباً واسعاً وهو باب التوبة والرجوع إليه وعدم القنوط من رحمته.
الحث على الإنابة والرجوع إلى الله تعالى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الإخوة في الله! هذا الدرس بعنوان: (لا تقنطوا من رحمة الله) وهذا العنوان جزء من آية كريمة في كتاب الله عز وجل، وقد بين الله عز وجل فيها للناس الذين أسرفوا في الذنوب وأمعنوا في الخطايا، فدعاهم ألا يقنطوا من رحمة الله، ودعاهم أيضاً بأن سماهم عباده فقال: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:53-54] إلى آخر الآيات.
ومنهج الإسلام في التعامل مع النفس البشرية منهج عظيم ينطلق من علم الله عز وجل بحقيقة هذه النفس؛ لأن الله عز وجل هو الذي خلق النفس: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8].. أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] يعلم ضعفها، وحقارتها، وتسلط الأعداء عليها، ولذا فإن الله تبارك وتعالى عاملها عن علم، وفرض عليها ورباها من طليق الفهم بها والعلم بأسرارها، فالنفس تعتمد في الأصل على إدراك الحق، هذا مطلب، وهو: أن يدرك كل إنسان الحق الذي من أجله خلقه الله تعالى أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد:19].
الناس أحد رجلين: رجل يعلم الحق والدين وأدركه، ومعنى الإدراك يعني: بلوغ هذه الحقائق إلى أعماق النفس البشرية. هذا يسمى إدراك، ليس فهماً ولا علماً، لا. إدراك يقيني، هذا رجل وفقه الله فأدرك.
- وآخر لم يدرك ولم يعرف الحق فهو أعمى عن طريق الحق: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً [الإسراء:72].
فالأول: أدرك الحق، وترتب على إدراكه للحق أن سار في طريق الحق؛ فقام بالفرائض والواجبات، وانتهى عن المحارم، وترك المعاصي والمنكرات، وهذا الفعل كفيل بأن يصل به إلى أعلى درجات الكمال إذا قام بأوامر الله وانتهى عما حرم الله، لم يعد إنساناً بشرياً بسيطاً عادياً، بل يرتفع عن مستواه؛ لأن الله تعالى يقول: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:7-9] أي: ارتفع بها، التزكية هي: الارتفاع والعلو بالنفس البشرية وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10] أي: غمسها ولطخها بالذنوب والمعاصي، فإذا فعل الإنسان الطاعات وترك المعاصي ارتفع إلى ذروة الرفعة، فهنا يصبح جديراً بأن يكون من عباد الله، وأن يكون خليفة في الأرض، إلا أن الإنسان بحكم بشريته، وطبيعة خلقه لا يبقى دائماً في سمو، بل ربما تعثر به القدم وتزل، وربما يسقط إما بسبب جهله، أو شهوته، أو ضغط شبهة، أو بتأثير رفقته، كل هذه مؤثرات تحاول أن تجذب الإنسان وهو في طريق السمو والارتقاء، شهوات، شبهات، رفقة، غفلة، جهل .. كل هذه اسمها مثبطات، فيحصل له بهذا انحراف عن السير في الطريق الصحيح.
أثر الانحراف الديني على الإنسان
إن هذا الانحراف يهبط به وينزله من المستوى الإنساني، ويحول بينه وبين التطهر والترقي والتسامي فيسقط ويقل قدره عند الله، وينحط إلى الدرك الذي يعوقه عن النهوض بتبعات هذا الدين، فيألف المعاصي، وتثقل عليه الطاعات، وحين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة لا يكون له رسالة في الكون، ولا هدف ولا مثل، وإنما تتجه جميع قدراته وإمكاناته لإشباع غرائزه، وإيثار مصالحه، والتنكر للمصالح الأخرى، فيصبح شخصاً أنانياً فقط. همه أن يدور كل شيء في فلكه هو، ويوم أن تخلو الحياة من الضمائر الحية والأفراد الصالحين تتحول الحياة إلى صراع، وحلبة لا يكون فيها إلا شبه صراع الحيوانات المفترسة، وهذا معنى قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12] ويقول عز وجل: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44] لماذا؟
لأنهم نزلوا من المستوى الإيماني .. عن الرقي الديني إلى المستوى البهيمي، وعاشوا كما تعيش البهائم. هنالك لا تكون لهم قيمة إلا بالعودة إلى الله والتمسك بحبله، يقول الله عز وجل: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ [الزخرف:43-44] ذكرك، شأنك، علوك، منزلتك، كيانك، وجودك كله أين؟
في كتاب الله: وإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ بغير القرآن لا ذكر لك، بغير الدين لا معنى لوجودك، بغير الإيمان لا قيمة لك، من أنت؟ أنت ذرة من ذرات هذا الكون، أنت حشرة من الحشرات التائهة فيه، لكن بالإيمان أنت أكبر وأعظم من فيه.
لكن متى؟ يوم أن تستمسك، ولكن كيف؟ لا بد من الشعور، والإنسان ينزل لا بد أن يستشعر ذلك في نفسه، وأن هناك صارخ وداعية يدعوه يقول: لا تستجب لهذا النزول، ارجع ولا تقنط من رحمة الله؛ لأن الشيطان يقول: انتهى الأمر، أنت لا تعمل، أنت نازل فلا تصعد، ما لك والتعب فلن يغفر الله لك؟
ويضخم الشيطان خطاياك، ويكبر سيئاتك، ويقول: أنت مجرم مسيء، حتى يحول بينك وبين الرقي مرة ثانية وهذا وحي إبليسي.
أما الوحي الإيماني فإنه يهتف بك ويقول لك: أنت إنسان
الإنسان مجبول على الخطأ
لست ملكاً مطهراً، ولا بشراً معصوماً، إنما أنت بشر تنازعك القوى، وتتجاذبك الأهواء، وتتغلب عليك طبائعك، فتسموا أحياناً وترتفع، وتنزل أحياناً وتخلد، أجل .. عليك ألا تستجيب باستمرار لداعي الهبوط، بل صحح خطأك، وعالج مرضك، واغسل ذنبك، واستأنف السير مع ربك من جديد، يقول عليه الصلاة والسلام وهو يبين طبيعة البشر: (كل ابن آدم خطَّاء -الخطيئة هي شأن بني آدم ولكن- وخير الخطائين التوابون) هذا الحديث رواه ابن ماجة والحاكم والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
(كل ابن آدم) وأنت من بنيه، أتريد أن تبقى ملكاً لا تخطئ ولو مرة واحدة؟
هذا غير ممكن! لا يوجد أحد في الدنيا لا يخطئ، كلكم خطاء، ولكن الخطيئة في حياة المسلم عارضة وفي حياة الفاجر ثابتة .. الخطيئة ملازمة لذاك أما المسلم فلا، تعرض له فقط، ولكن يتوب مباشرة منها (وخير الخطائين التوابون) هكذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم.
ويقول عليه الصلاة والسلام والحديث في صحيح مسلم : (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) وبسط اليد من قبل الرب هو عملية استعجال، أنت اليوم أذنبت في النهار والله في هذه الليلة يبسط يده لجميع المسيئين والمذنبين .. ارجعوا بسرعة، ارجع ولا تستمر في المعصية. وبسط اليد يعني: دعوة من الله تعالى لعباده ولذا قال: (يبسط يده بالليل) لمن؟ ليس للصالحين، وإنما للمسيئين: (ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل).
إلى متى؟
والله عز وجل وهو يعلم طبيعة البشر وضعف الإنسان يقول في كتابه: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] ويقول وهو يحدث عن أبي البشر آدم عليه السلام: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طـه:121-122] ويقول: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37].
هذه الكلمات التي قالها آدم هي قول الله عز وجل: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] لما قالها تاب الله عز وجل عليه وهدى، ولم يقلها إبليس، مع أن المعصية كانت مشتركة؛ المعصية من إبليس رفضه السجود، والمعصية من آدم أكله من الشجرة، وترتب على هاتين المعصيتين وهي ترك الأمر من قبل إبليس: اسجد. فما فعل الأمر، وفعل النهي من آدم: لا تأكل، فأكل، وهما أساس المعاصي في الدنيا كلها، ليس هناك معصية إلا أن تفعل محذوراً أو تترك مأموراً، وترتب على هاتين المعصيتين أن الله قال لآدم وإبليس: اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طـه:123].
إبليس لم يتب بل طلب الإنظار من أجل الإضلال: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص:79] قال الله تعالى له: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [ص:80] أما آدم قال: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] فلما قالها وتلقى هذه الكلمات من الله عز وجل تاب الله عليه، قال تعالى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طـه:121-122] وقال له وللناس أجمعين في خطابٍ رباني كريم منه عنوان المحاضرة: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا أي: أكثروا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:53-54].
سعة مغفرة الله عز وجل
ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث قدسي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل، والحديث في سنن الترمذي يقول: (يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي) الله أكبر!!
يروي ابن أبي حاتم -والقصة عند ابن كثير - أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سقط حاجباه على عينه من كبر سنه وتقدم عمره، وقال: (يا رسول الله! رجل غدر وفجر، ولم أدع حاجة ولا داجة إلا اقترفتها، ولي ذنوب لو قسمت على أهل الأرض لأهلكتهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ قال: نعم. قال: اذهب فإن الله قد كتب لك بكل سيئة حسنة -فالرجل تعجب! سيئات تتحول إلى حسنات- قال: وغدراتي وفجراتي -يعني الكبار الضخمة التي لا يتصور أنها تغفر- قال: وغدراتك وفجراتك! فولى الرجل وهو يقول: لا إله إلا الله، الحمد لله) ذكر هذا الأثر الصحيح ابن كثير عند تفسير قول الله عز وجل: فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70].
ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) الغرغرة: بلوغ الروح إلى آخر منتهاها، بمعنى: ليس هناك إمكانية، وأصبحت مثل توبة المضطر الذي إذا وصلت الروح وبدأت تغرغر فلا تنفع توبة؛ لأن الإنسان رأى الموت، لكن قبلها يقبل الله التوبة ويعفو عن السيئات.
---------------------------
قال الله عز وجل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر: 53).. ترغِّب هذه الآية المذنبين في التوبة والاستغفار، وتدعوهم إلى الرجوع إلى الله، وعدم اليأس والقنوط من رحمة الله.
وإن وقوع المسلم في الخطأ والذنب متوقَّع، وليس مستبعدًا؛ لأن الإنسان ضعيف أمام الإغراءات والشهوات، كما قال تعالى: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ (النساء: 28)، ولم يجعل الله العصمة إلا لأنبيائه ورسله - عليهم الصلاة والسلام - فهم الذين حفظَهم وصانَهم، وعصَمَهم من الوقوع في الذنوب أو المعاصي أو الأخطاء؛ لأنهم قدوةٌ لأتباعهم، ويبلغونهم شرع الله.
أما غير الأنبياء والمرسلين فهم عرضةٌ للوقوع في الذنوب والمعاصي؛ حتى لو كانوا من كبار العلماء أو قادة الأولياء، أو من السابقين من الصحابة والتابعين!! وهذا دليل ضعف الإنسان وعجزه وقصوره وحاجته إلى الله!!
والفرق بين ذنب الصالح وذنب الطالح أن ذنب الطالح المفرِّط المقصِّر يكون بقصد وتعمُّد وتوجُّه وتصميم؛ فهو يفكر فيه ويبحث عنه ويطلبه ويخطط له، ويتفاعل معه، ويرتكبه برضى وقبول، في الوقت الذي يكره فيه العبادة والطاعة والفضيلة والعفة.. أما الصالح التقي فإنه يجاهد نفسه لعدم الوقوع في الذنب، ويأخذ بها نحو العبادة والعمل الصالح، ويحذَر المعاصي والذنوب.. ومع ذلك قد يضعف ويغفل، فيقع في الذنب، ويكون هذا بدون قصد أو تعمُّد.. ثم إنه سرعان ما يصحو ويتذكر، فيعرف خطأه، ويعترف بذنبه، ويسارع إلى التوبة والاستغفار، وعلى هذا قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ (الأعراف: 201).
وإن الله عليم حكيم، خلق الإنسان بهذا الضعف؛ ولذلك يدعوه إلى سرعة الرجوع إليه، وعدم الارتكاس في المعصية، والركون إلى الذنب، والقنوط من رحمة الله.
ينادي الله عباده المقصرين الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي ويرغِّبهم في التوبة، ويحثهم على الاستغفار، ويتحبب إليهم سبحانه قائلاً: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم، لا تقنطوا من رحمتي، ولا تيأسوا من مغفرتي، واحذروا أن يخدعَكم الشيطان، وإياكم أن تيأسوا من فضلي.. هلمُّوا وتعالوا إليَّ، وأقبلوا عليَّ، وأنا أقبلكم وأغفر لكم كل ذنوبكم ومعاصيكم؛ لأني أغفر الذنوب جميعًا.
أرأيتم هذا الترغيب من الله لعباده في التوبة والاستغفار؟! وهذا التحبب من الله لهم!! وهذه الفرصة الجديدة التي يتيحها.. وكم يخسر الذين لا ينتهزون الفرصة ويرفضون التوبة!!
- =======================
بسم الله الرحمن الرحيم
--------
لا تقنطوا من رحمة الله
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
"قَالَ إِبْلِيسُ: أَيْ رَبِّ لَا أَزَالُ أُغْوِي بَنِي آدَمَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ".
قَالَ: "فَقَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ:لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي".
أخرجه أحمد (3/29 ، رقم 11255) ، وعبد بن حميد (ص 290 ، رقم 932) ، وأبو يعلى (2/530 ، رقم 1399) ، والحاكم (4/290 ، رقم 7672) ، وقال : صحيح الإسناد. وأخرجه أيضًا: الطبراني فى الأوسط (8/333 ، رقم 8788) . وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1 / 163).
=====================
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِلِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِوَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِلِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا".
أخرجه أحمد (4/395 ، رقم 19547) ،ومسلم(4/2113 ، رقم 2759) ،
والدارقطني فى الصفات (1/20 ، رقم 18) . وأخرجه أيضًا : عبد بن حميد (ص 197 ، رقم 562) ،
والروياني (1/364 ، رقم 556) ، والبيهقي (8/136 ، رقم 16281).
======================
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْصِنِي, قَالَ: "إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَأَتْبِعْهَا حَسَنةً تَمْحُهَا"
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِأَمِنَ الْحَسَنَاتِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ قَالَ: "هِيَ أَفْضَلُ الْحَسَنَاتِ".
أخرجه أحمد (5/169 ، رقم 21525) وحسَّنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (3 / 361).
=====================
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:"إِنَّ صَاحِبَ الشِّمَالِ لِيَرْفَعُ الْقَلَمَسِتَّ سَاعَاتٍ عَنِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ الْمُخْطِئِ أَوِ الْمُسِيءِ، فَإِنْ نَدِمَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْهَا أَلْقَاهَا، وَإِلا كُتِبَتْ وَاحِدَةً".
أخرجه الطبراني (8/185 ، رقم 7765) ، وأبو نعيم فى الحلية (6/124) . وأخرجه أيضًا: الطبراني فى مسند الشاميين (1/301 ، رقم 526) ، والبيهقي فى شعب الإيمان (5/391 ، رقم 7051) ، و الواحدي في " تفسيره " (4 / 85 / 1 ). وحسنه الألباني في " السلسلة الصحيحة " ( 3 / 210 ).
===========================
- صيد الفوائد
=================================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق